للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من آداب الجوار]

الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد على إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه وعن الند، وعن المثيل وعن النظير وعن الشريك، ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير، كل ذلك تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، وجزاه عنا خير ما جزى نبياً عن أمته.

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، والزموها، وصلوا معها، وأحسنوا الصحبة والجوار لجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.

معاشر المؤمنين: الآيات والأحاديث كثيرة في حقوق المسلم على أخيه، وحقوق الجار على جاره، ولا يسع المقام لذكرها تفصيلاً، ولكن حسبكم ما سمعتم من الطرف الذي ذكرناه آنفاً، ولكن نواصل في ذكر بعض الآداب المتعلقة بالجار والجوار، فقد كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا طبخ لحماً في بيته قال لـ نافع: [أكثر مرقه واهد إلى جيراننا] وجاء في الأثر: أنه لا ينبغي لجارٍ أن يدخل بطعامٍ ومتاع وجاره أو أبناء جاره ينظرون، إلا أن يعطيهم مما أدخل بيته؛ خشيةً من أن يكسر ذلك خاطره أو خاطر أبنائه، إلا أن يكون لا يكفيه؛ فيدخله في بيته سراً.

انظروا إلى عظم ودقة شأن وحساسية الشعور بالجار، ألا تكدر خاطره بشيءٍ يراه عندك وهو محرومٍ منه، إلا أن تعطيه، إلا أن تعود عليه بفضل ما آتاك الله، إلا أن تتصدق عليه، إلا أن تقدم له الفضل والبر والمعروف، فأين الناس في هذا الزمان من هذه الحقوق، ولقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم أن طُبِخَ في بيته لحمٌ قال: (أهديتم لجارنا اليهودي) جارٌ يهودي، وفعله صلى الله عليه وسلم قد يكون من باب الدعوة، ومن باب السياسة الشرعية، ولكنه صلى الله عليه وسلم مع ذلك لم يقصر هذه الحقوق، بل تعداها إلى الجار اليهودي طمعاً في إسلامه.

ويوم أن افتقد الشوك والأذى من طريقه، وهو يعلم أن جاره اليهودي هو الذي يجعل هذا الأذى والشوك في طريقه؛ ذهب وعاده في بيته، قال: (أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعودني؟! قال: نعم.

قال: كيف علمت بمرضي؟ قال: فقدت الشوك والأذى، قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله).

فالصبر على أذى الجار، والنصيحة له، وبذل المعروف والإحسان إليه؛ قد يكون سبباً لهدايته من الكفر إلى الإسلام، ومن الفسق والعصيان إلى الاستقامة والرشاد.

ذكروا أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله كان له جارٌ يشرب الخمر كل ليلة، فإذا سكر هذى وأخذ يغني:

أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ليومٍ كريهة وسداد ثغرِ

فكان الإمام أبو حنيفة رحمه الله إذا قام إلى صلاته في هجيع الليل، سمع ذلك الجار في سكره يقول ذلك، فافتقده ذات يوم، وافتقده اليوم الذي يليه، فذهب يسأل عنه، فعلم أن الشرطة والمحتسبة قد وجدوه سكيراً فأخذوه وحبسوه، فذهب الإمام أبو حنيفة يعوده في الحبس، فعجبوا من مجيء الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وكأنهم تغاضوا شيئاً يسيراً عن شأنه، فلما خرج ذلك الشاب قال له الإمام أبو حنيفة: يا فتى! وهل ضيعناك؟ لأنه في حال سكره كان يقول:

أضاعوني وأي فتىً أضاعوا

فقال له الإمام أبو حنيفة: هل ضيعناك؟ فحلف بالله ألا يعود لشربها أبداً، وتاب إلى الله توبة صادقة، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين، وأن يمن علينا وعليكم بالاستقامة.

معاشر المؤمنين: إن الجار الذي يؤدي المعروف والإحسان إلى جيرانه، ويكف الأذى عنهم لهو بمنزلةٍ عظيمة عند الله، وعند الملائكة والناس أجمعين، فكونوا من أولئك.

وإن الناس لتبيع الدور والقصور بأبخس أثمانها فراراً من جيرة السوء، ولتشتري أصغر الدور وغيرها رغبةً وطمعاً في جيرة الخير والصلاح والتقى.

ذكروا أن جاراً لـ أبي حاتم رحمه الله قد لحقه دينٌ عظيم، فاضطره أن يبيع بيته، فجاءوا يتزاودون على داره فقال: الدار بمائتي ألف دينار، فعجبوا من ذلك، قال: نعم.

أما الدار فبخمسين ألف دينار، وجواري من أبي حاتم بمائة وخمسين ألفاً، لقد عظم شأن هذا الجوار، فلما علم أبو حاتم بفعله هذا؛ قضى دينه وقال: اجلس في دارك جزاك الله خيراً من جار.

فانظروا يا عباد الله! إلى عظم ومكانة الجار الخيرّ والجار الطيب، ومكانته في نفس جيرانه، ولقد مضى زمنٌ قريب وكلكم أدركه، وقد عاش شيئاً من عمره فيه، يوم أن كان الناس يفتحون من دورهم على دور جيرانهم شيئاً، فإذا احتاجوا لا يخرجون مع الأبواب وإنما يطرقون النافذة من داخل المنازل، فتكلم فلانة إلى فلانة وتؤدي حاجتها إليها عملاً وبراً وإحساناً بالجوار.

كانت سطوح المنازل متحدة، وما كان جارٌ يفكر أن يؤذي جاره، كان الجار يسافر الأشهر الطويلة ويوصي جاره بأهله وأهل بيته، وما يتعرض الشيطان له أن يتعرض لهم بسوء، وما كان يمد طرفه وبصره إليهم.

أما الآن فإن الأذى مستشرٍ والبلاء منتشرٌ من بعض الجيران، إما بنظرات زائغة أمام الأبواب، وإما بإزعاجٍ، وإما بأذىً يُلقى أمام الدور، فما حال جارٍ هذه أموره مع جاره؟ والله إنه ليبيع داره بأبخس الأثمان فراراً من ذلك الجار.