للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وقفة محاسبة]

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال في محكم كتابه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:٦٢]، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:١٩٠ - ١٩١].

أشهد أن لا إله إلا الله، ولا معبود بحق سواه.

أشهد أن الله أحيانا ويميتنا، ويبعثنا ويحشرنا، ويحاسبنا وبالعدل يحكم بيننا.

أشهد أن لا إله إلا الله: واحد في ربوبيته، فهو المدبر وهو المتصرف والمالك، وهو المعز والمذل، مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، كل خير بيده، ولا يدفع بلاء إلا بمنة منه وحده.

أشهد أن لا إله إلا الله: فالركوع له، والسجود له، والحلف به، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والخوف من عذابه، والطمع في ثوابه.

أشهد أن لا إله إلا الله: له الأسماء الحسنى والصفات العلى {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:١٨٠].

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خير من وطئت قدمه الثرى، بعثه الله إلى الجن والإنس بشيراً ونذيراً، قال صلى الله عليه وسلم: (قد أعذر الله إلى امرئ بلَّغه الستين من عمره) فمن بلغ فليعتبر، ومن دنا فليستعد، ومن انتصف فلينظر ما قدم وما أخر.

صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، كان نبينا بنا براً رءوفاً رحيماً: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:١٢٨].

هذا النبي الرءوف الرحيم ما ادخر شفاعته لآل محمد، أو لآل البيت، أو لمن دنا نسبه وسببه منه، رءوف رحيم، بل جعل شفاعته للعصاة من أمته، أن يخرجوا من النار فيدخلوا الجنة، بعد أن يأذن الله له: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:٢٨] والنبي من المرضيين.

أيها الأحبة في الله: منذ يومين أو أقل أو أكثر ودَّعَنا لا نقول: ودَّعْنا نحن، بل ودَّعَنا؛ لأن المودِّع لو كان قادراً على الخيار في أن يودع أو يمكث لقلنا نحن المودعين، لكن العام ودَّعَنا، ولا خيار لنا في وداعه، ولا خيار لنا في فراقه؛ لأن الله أمر هذا العام بأشهره، وأيامه، ولياليه أن تودعنا.

أيها الناس: من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا.

في الغابرين الأولين من القرون لنا بصائر

لما رأيت موارداً للناس ليس لها مصادر

أيقنت أني لا محالة حيث صار القوم صائر

هذا من كلام قس بن ساعدة، وهي خطبة بليغة في التفكر والتدبر، في فراق الدنيا، ورحيل الأيام والأعوام.

إن الجديدين إذا ما استوليا على جديد أسلماه للبلا

منع البقاء تقلب الشمس وخروجها من حيث لا تمس

وبزوغها صفراء صافية ومغيبها حمراء كالورس

أيها الأحبة في الله: ولَّى هذا العام لينزع من غابة عمرك، شجرة لينزع من غابة العمر شجرة هي سنة بأغصانها، أشهرها وأوراقها الأيام والليالي.

وكان لعامنا المنصرم بداية، ورأينا مصرع العام، ونهاية العام، ورحيل العام، وسيشهد عام مصرعنا، وسيشهد عام ما سيشهد رحيلنا وفراقنا، سيشهدنا يوماً نُحمل فيه على الأكتاف، على النعش نغسل ونكفن وندفن ونودع.

وليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء

إنا في هذا العام نودع أمواتاً -أيضاً- هم على قيد الحياة، وسنودع أمواتاً ينقلون إلى المقابر، وكما شهدنا وداعه، سيشهد عام قادم وداعنا وفراقنا ورحيلنا، وتصرم شجرة عمرنا.

أيها الأحبة: وسيكون لهذا العام الذي دخلناه نهاية، فمن ينتهي أولاً، هل ننتهي نحن أم ينتهي العام أولاً؟! وهب أننا شهدنا نهايته، فهل نشهد نهاية أعوام قادمة أم لا بد أن يكون فيها عام يشهد مصرعنا، ورحيلنا، وسكراتنا، وتغرغر الروح فينا، وبكاء الأقارب حولنا، وضعفنا ونحن على الأسرة والفرش نعالج السكرات ونرى الكربات، ونرى الأقارب لا يدفعون ولا يقدمون ولا يقربون.