[المحافظة على الجلساء الصالحين]
والثاني: أن تحرص كل الحرص على من تجالس، لا يعني هذا الكلام أن يتكبر الصالحون، أو أن يتورع طلبة العلم والعلماء عن مجالسة العامة، لا.
لابد أن ينفر من فيه خيرٌ وصلاح لدعوة من ضل من العوام، ولدعوة من ضل من سائر الناس، بل والدخول عليهم في مواقعهم شريطة أن يكون العبد متحصناً بخيرٍ كثير، مستعداً بما عنده من علم وعبادة قبل أن يرد مواقع الذين يدعونهم، أما رجل اهتدى بالأمس، فأصبح يدعو الناس في مجلس فسق ولهو، سرعان ما ينحرف وينتكس ويتغير، أو شاب لم يطلب العلم إلا منذ أشهر، فذهب ليناظر أقواماً يسوقون ويمررون الشبهات الواحدة تلو الأخرى، فسرعان ما يزل ويزيغ وتصيبه الشبهة، وتقتله في مقتل قد يضل بعده، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أعني أن العبد لا يمنع حينما يكون عنده العلم والعبادة أن يدعو الناس، بل يصل إليهم في مواقعهم إذا أمن نفسه، وكلٌ بنفسه أدرى: {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:١٤] قد تجد من نفسك في يوم من الأيام قوة عظيمة وقدرة على غشيان مجالس الفساق والسفهاء لدعوتهم ونصحهم وتخويفهم وتذكيرهم وإنذارهم، وقد تكون بعد هذا في يومين، أو ثلاثة أعجز من أن تقابل ولو معصية صغيرة، فإياك أن تذهب إذا وجدت من نفسك ضعفاً، أو من قلبك خوفاً، أو وجدت في حالك تردداً، إذ العبد لا يأمن أن يذهب غازياً، فيعود أسيراً مهزوماً، والعاقل من أدرك أن صلاح نفسه، وتحصيل نجاة نفسه مقدمٌ على سائر الناس أجمعين، هذا من الأمور المهمة.
ألا وإن مجالسة الناس على درجات، فجالسوا واحرصوا على مخالطة من ينفعونكم، وعلى غشيان مجالس تذكركم بالله، تجعلكم تديمون ذكر الله، وتستغفرونه وتسبحونه وتحمدونه وتكبرونه، فتلك مجالسٌ قد حفظت لكم من الخير شيئاً كثيراً، وإن الدقائق زائلة، والثواني ماضية، والساعات منقضية، فتخيل دقيقة الآن بين عينيك لك أن تقول في هذه الدقيقة: سبحان الله، والحمد لله والله أكبر، فتزول الدقيقة بهذه الكلمات، ولك أن تقول في هذه الدقيقة: فلان قال، وفلان قام، وفلان أعطى، وفلان منع، فتتولى وتمضي هذه الدقيقة بهذه الكلمات، وستجد يوم القيامة: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران:٣٠] ستجد الخير والسوء، ستجد الخير والشر بين عينيها محضراً، ستجد هاتين الدقيقتين إن قلت فيها: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، وستجد الأخرى إن قلت فيها: فلان أعطى وقام وعزل ومنع وولى، وغير ذلك.
فالعاقل من ينتبه لهداية نفسه، أوليس مقاصد العلماء في طلب العلم أن يعرفوا الحلال والحرام، لئلا يقعوا في معصية الله، أن يصيبوا أمر الله، أن ينالوا ثواب الله؟ فإن الإقبال على النفس، وتحصيل هدايتها هو من مقاصد ومطامع العلماء الأجلاء، إذ قد يقول قائل: إن الإقبال على النفوس، وتزكية الأنفس إنما هو من مقاصد علماء السلوك، أو علماء الأخلاق، أما العلماء الذين تخصصوا في الحلال والحرام، فأولئك ربما كان بحثهم في مسائل غير هذه، لا وألف لا.
مقاصد العلماء وعلماء السلوك وعلماء الحلال والحرام، وعلماء الأخلاق، مقاصدهم الجليلة ألا يعصى الله، وأن يطاع الله، وأن يسير العبد على أمر الله ورسوله.
أقبل على النفس فاستكمل محاسنها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ
يا عامراً لخراب الدهر مجتهداً أفنيت نفسك فيما فيه خسران
من طلب الهداية والاستقامة، فليحذر كل الحذر من مجالس إنما هي تردية تؤذيه ولا تنفعه، والعاقل أدرى بنفسه، فإن كنت يوماً قوياً فاغش من تسعى لجهادهم بالكلمة والموعظة والنصيحة، وإن وجدت نفسك ضعيفاً، فاحرص أن تنزجر أو تتقهقر حتى تجد من نفسك قوة.
كان بعض السلف إذا دعي إلى بعض المواقع والمجتمعات أو المقامات، وعلم أنه مقدمٌ على مجتمع يعظ فيه، أو يناظر فيه، أقام ليلته كلها قبل أن يغشى القوم، يسبح ويهلل ويكبر، ويصلي ويسجد ويقرأ القرآن، يتزود بزاد حتى إذا نزل ساحة من يدعوهم، نزل إليهم قوياً مؤثراً لا متأثراً، وكان بعضهم يسبق ذلك بصيامٍ وصدقات حتى يقوي نفسه بالطاعة؛ لأن النفس إذا قويت بالطاعة كانت قادرةً على الدعوة إليها، وإذا ضعفت في الطاعة، كانت عاجزةً عن الاستمرار عليها فضلاً عن أن تدعو غيرها إليها.
المجالس المجالس يا شباب الإسلام! المجالس المجالس يا أيها المسلمون! من جالس أقواماً نال صفاتهم شاء أم أبى، وإن المعصومين هم رسل الله، ومن أعانه الله وحفظ نفسه، فلينتبه لهذه المسألة.
لما رأت أختها بالأمس قد خربت صار الخراب لها أعدى من الجربِ