للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصر الأمل وأهميته في تدارك الأوقات]

إن قصر الأمل في الدنيا مما يعين على تدارك الأوقات بإذن الله، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) رواه البخاري، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (مالي وللدنيا؛ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها) رواه الإمام أحمد والترمذي وغيره، وقال علي بن أبي طالب: [إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى، وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصدكم عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، ألا وإن الدنيا ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة ارتحلت مقبلة، ولكل واحدة منها بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل] رواه البخاري تعليقاً، ووصله ابن أبي شيبة في المصنف، ورواه ابن المبارك في الزهد.

قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم تحت حديث ابن عمر: (كن في الدنيا كأنك غريب) قال: وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة وليست له وطناً، فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على واحد من حالين: إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد الغربة، همه التزود للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم ألبتة، بل هو ليله ونهاره يسير إلى بلد الإقامة، فلهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر أن يكون في الدنيا على واحدٍ من هذين الحالين.

تأملوا أحوال كثير من الناس، هل بنوا لأنفسهم في الآخرة شيئاً؟ هل أعدوا لأنفسهم في الآخرة شيئاً يرجونه؟ ربما تجد كثيراً من الخلق قد بنوا لأنفسهم في هذه الدنيا قصوراً ودوراً ومزارعاً وضيعات وبساتين، ولكنهم ضيعوا أنفسهم في دار الخلود الأبدي السرمدي، قال ابن القيم:

فحيا على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم

ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلّم

وقد زعموا أن الغريب إذا نأى وشطَّت به أوطاره فهو مغرم

وأي اغتراب فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تحكم

قال الحسن: اجتمع ثلاثة من العلماء، فقالوا لأحدهم: ما أملك؟ قال: ما أتى علي شهرٌ إلا ظننت أنني أموت في هذا الشهر، فقال صاحباه: إن هذا لأمل طويل، فقال للآخر: فما أملك؟ قال: ما تمر علي جمعة إلا وظننت أني أموت فيها، فقال: إن أملك لطويل، فقيل للأخير: ما أملك؟ قال: ما أمل من نفسه في يد غيره؟! رواه ابن المبارك في الزهد.

نعم أيها الأحبة: هل منا من كتب الآن وصيته تحت وسادة رأسه؟ هل منا من تخيل أنه يلبس ثوباً فلا يخلعه؟ ويدخل داراً لا يخرج منها؟ ويركب دابة لا ينزل عنها؟ هل منا من يتخيل أن الموت قد يفاجئه في أي لحظة؟ الواقع -أيها الأحبة- أننا لا نفكر بهذا أبداً، بل ربما نسمع المواعظ، ونتكلم بالمواعظ، وقلوب تعرف، وألسنة تصف، ولكن الأفعال تخالف، القليل من يستعد لهذا، وأكبر دليل أن الكثير منا عنده من الذنوب ما لم يتب منها، وعليه من الحقوق ما لم يردها، وعنده من التفريط ما لا يصلح به حاله.

فكيف -يا أخي الكريم- تعد نفسك من الأخيار، وتعد نفسك من أهل الآخرة، وأنت لا تزال متعلقاً متشبثاً بهذه الدنيا، وعن الآخرة معرضاً؟ كان أويس القرني إذا قيل له: كيف الزمان عليك؟ قال: كيف الزمان على رجل إن أمسى ظن أنه لا يصبح، وإن أصبح ظن أنه لا يمسي، فيبشر بالجنة أو بالنار، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان، حب المال وطول العمر) رواه البخاري.

وفي الأمل سر لطيف؛ لأنه لولا الأمل ما تهنّا أحد بعيش، ولا طابت نفسه أن يشرع في عمل من أعمال الدنيا، إنما المذموم الإسراف والاستغفال في طول الأمل، وعدم الاستعداد لأمر الآخرة، فمن سلم من ذلك فهو على خير، قال ابن الجوزي: الأمل مذموم للناس إلا العلماء، فلولا أملهم لما صنفوا وما ألفوا.

إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجل

فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً فإنما الربح والخسران في العمل

قال ابن مسعود رضي الله عنه: [ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أملي ولم يزد فيه عملي].

أيها الأحبة: المبادرة المبادرة! عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمساً قبل خمس، حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك) رواه الحاكم وصححه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ) رواه الإمام البخاري رحمه الله.

أيها الأحبة في الله: كم يمضي ويمر علينا من الأيام والشهور والأعوام، والواحد قبل خمس سنوات أو أكثر قد عزم على أن يفعل كذا ولم يفعل، عزم على أن يقلع عن كذا ولم يقلع، وحرص على أن يرد لصاحبه كذا وكذا فلم يرد.

فإلى متى؟ وحتى متى؟

خل ادكار الأربع والمنزل المرتبع

والضاعن المودع وعد عنه ودع

واندب زماناً سلفا سودت فيه الصحفا

ولم تزل معتكفاً على القبيح الشنع

إلام تسهو وتني ومعظم العمر فني

فيما يضر المقتني ولست بالمرتدع

يا أحبابنا! ويا إخواننا! إذا رأينا جنازة، فهل تخيلنا أننا ذات يوم على مثلها نحمل؟ وإذا رأينا نعشاً هل نتخيل أننا على مثله نغسل؟ وإذا رأينا عجوزاً قد احدودب ظهره وابيض عارضاه، وقد ذبل خداه، وضمر جنبه من الضعف والسقم، هل تخيلت نفسك يا بن العشرين والثلاثين والأربعين؟! هل تخيلت إن غفل عنك الموت، أو إن أخرتك المنية؟! هل تخيلت نفسك وأنت تدب على عصا قد احدودب ظهرك؟ الله المستعان! انظر إلى أقوام قد جمعوا وجمعوا، ثم أصبحوا ينظرون إلى دنيا ما استطاعوا أن يتلذذوا منها بشيء في أي حال من الأحوال، فو الله -أيها الأحبة- إن هذه الدنيا ليست بشيء، والعاقل من تأمل فيها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول ابن آدم: مالي مالي، وليس لك من مالك إلا ما لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت، أو تصدقت فأمضيت).

مضى أمسك الماضي شهيداً معدلاً وأعقبه يوم عليك جديد

فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة فثنِّ بإحسان وأنت حميد

فيومك إن أعتبته عاد نفعه عليك وماضي الأمس ليس يعود

ولا تُرجِ فعل الخير يوماً إلى غدٍ لعل غداً يأتي وأنت فقيد

فيا أحبابنا! إنها نصيحة ونحن في استقبال عام جديد، أن ننتبه ونستعد، وألا يكون مغيب الشمس أمراً عادياً، إن الذي تصارعه نفسه إذا غابت الشمس وقف وقفة حرقة كيف غاب الشفق؟! وهل أدركتُ من هذا اليوم أمراً جليلاً في مرضاة الله عز وجل؟ إذا صلى الجمعة وغابت آخر ساعة من يوم الجمعة، وهو جالس في مصلاه يتحرى ساعة الإجابة، وقلبه يتحرك كيف مضى من عمره أسبوع، وهل قضى فيه شيئاً يرضي الله عز وجل؟ إذا هل هلال شهر ليعلن شهراً منصرماً ماضياً، ويعلن شهراً جديداً قادماً، تحرك قلبه كيف مضى الشهر؟ أليست هذه المفكرة تنزع منها كل يوم ورقة، كأنها ورقة تنزع من عمرك، وكأنها صفحة تنزع من عمرك، وكأنها مرحلة تنزع من عمرك؟

إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجل

أسأل الله عز وجل أن يجعلنا في ختام هذا العام المنصرم ممن ختم له بالتوبة والمغفرة والرجوع والإنابة، فنسأله عز وجل أن يجعلنا ممن استعد لهذا العام القادم بنية صالحة، فإن من الناس من استعد بالمعصية، واستعد بالسفر للخارج، واستعد أن يفعل كذا وأن يعصي الله بكذا، وأن يمشي إلى الحرام، وأن ينفق في الحرام، وأن يفعل الحرام، ومن الناس من استعد لحفظ كتاب الله وسنة نبيه، والدعوة إلى سبيله، والسعي في مرضاته، والشفاعة لحاجات خلقه، والسعي فيما يرضي مولاه عز وجل عنه.

فالعاقل من استعد بخير، والجاهل من استعد بشر، وكلٌ سيدرك ما أمّل، والله عز وجل يقول: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني) فاستعدوا بخير، وظنوا بالله خيراً، أسأل الله أن يصلح أحوالنا، وأن يهدي ولاة أمورنا، وأن يجمع شملنا وحكامنا ودعاتنا وعلماءنا، وألا يفرح علينا عدواً، وألا يشمت بنا حاسداً، اللهم أصلح أحوالنا واهد شبابنا واستر نساءنا، اللهم من أراد بالشباب والنساء فتنةً وضلالة واختلاطاً، اللهم من أراد بالعلماء مكيدة، وأراد بالولاة فتنة، اللهم اكفناه بما شئت، إنك أنت السميع العليم يا رب العالمين.

أقول قولي هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.