للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تضحية الغلام المؤمن بنفسه في سبيل الله]

تعرفون قصة أصحاب الأخدود، في خلاصتها أن ملكاً من الملوك السابقين ادعى الربوبية، وكان ساحره يسيطر ويوسوس ويزخرف للناس أفعالاً يعتقدون بها أن ذلك الملك إله لهم، فلما أوشك على فراق الدنيا وأحس بدنو الأجل، قال الساحر للملك: إني أشعر بدنو أجلي، فهلا طلبتم لي فتى ذكياً، نابهاً فطناً، أعلمه الصنعة حتى يبقى الأمر لك من بعدي.

فماذا حصل له؟ اختاروا فتى، وكان ذلك الفتى يتردد على الساحر ليتعلم منه السحر الذي يزخرف به على أعين البشر، فيعتقد ألوهية ذلك الملك، وكان في الطريق راهب يعترض لهذا الفتى، فيعلمه الدين الحق والوحدانية السليمة، فأصبح الفتى بين أمرين وتيارين وطرفين يتجاذبانه، فقال: الآن أختبر هذين الأمرين يوم أن مر والناس قد حشروا لسبع قد عاقهم في المضي في طريقهم، فأخذ حجراً، قال: اللهم إن كان ما يعلمني هذا الراهب حقاً، فأمت هذا السبع بهذا الحجر، ثم قال: بسم الله رب هذا الراهب، فرمى السبع بها، فمات، ومر الناس وكبروا.

ثم أعجب الناس والتفوا حوله، وجاءوا إليه، فأصبح يداويهم باسم رب الراهب وهو الله جل وعلا، فلما علم الملك أن سحره بطل.

إذا جاء موسى وألقى العصا فقد بطل السحر والساحر

لما علم أن سحره بطل وانتهى، وأن كيده كشف واضمحل، أمر طواغيته ورجاله أن يأخذوا الفتى فيصعدوا به أعلى شاهق الجبال، فيرموه ليتردى إلى قعرها وقاعها، فلما هووا به، قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، وإنك أنت السميع العليم، فنزل على الأرض كأن سحابة حفظته وحملته، وكأن مضلة أو حافظاً قام به حتى وقف على قدميه، فعادوا وقبضوا عليه أخرى، وأخبروا الملك بشأنه، فقال: اذهبوا به إلى لجة البحر، وارموه بها، فلما ذهبوا ليرموه، قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، وإنك أنت السميع العليم، فاضطرب البحر بأمر خالق البحر، بأمر رب الأمواج، بأمر رب الأرضين والسماوات، فتقلب الموج بهم، فسقطوا في لجته، وبقي هو على القارب فعاد ناجياً وحده.

فلما أعيت الملك الحيلة في شأن هذا الفتى، قال: أخبرنا كيف الخلاص منك، وكيف القضاء عليك، وكيف فناؤك؟ قال: أتريد أن تتخلص مني؟ أنا أدلك، اجمع الناس في صعيد واحد، ثم خذ سهماً من كنانتي، فإذا وضعته في كبد القوس، فارفع صوتك، وقل: بسم الله رب الغلام، وعند ذلك لن يخطئ السهم فؤادي، وسأخر صريعاً أمامك وأمام الناس.

فظن ذلك المخدوع أنها هزيمة للفتى ونصرة للوثنية والطاغوتية، فجمع الناس جميعاً في صعيد واحد، وصلب الفتى على جذع شجرة، ثم جر الوتر حتى اشتد أنينه، ثم انطلق السهم في كبد الفتى وفؤاده، بعد أن قال الملك بصوت مرتفع: بسم الله رب الغلام، فلما سقط الفتى، صاح الناس كلهم آمنا بالله رب الغلام.

إنها تضحية بالفؤاد وبالدم، وبالروح والنفس، حتى تعيش الأمة، فلابد أن تراق الدماء، وأن تنثر الأشلاء، وأن تذهب الملذات في سبيل رفعة الأمم، ويقظة الشعوب، ونهضة الأمة، ووعي الشباب الذي خدر كثيراً.

فيا عباد الله! هذه كلها أمثال دلت على أن الدين لا ينتشر إلا بتضحية، ودلت على أن العقيدة لا تسمو إلا ببذل، ولا تثبت إلا بإيثار وتفان، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:٢٣].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.