للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة اللذة في الدنيا]

لنعلم أن اللذة في طاعة الله، وفي الأنس بالله وذكر الله، ولذلك قال الله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ} [الرعد:٢٨] غاية السعادة بالطمأنينة، وأين الطمأنينة؟ هل هي في الفرش أو الأكل والشرب، أم في الجاه، والمنصب، أم في الحسب والوظيفة؟ {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:٢٨] هذا هو أنس الدنيا وهذه لذاتها.

وبهذا نعلم -أيضاً- أن النعيم نعيم السعداء، وليس نعيم المترفين في الدنيا، النعيم نعيم السعداء الذين علقت وتعلقت قلوبهم بذكر الله، ولهجت ألسنتهم بكلام الله، واشتاقت أرواحهم إلى ما عند الله: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} [هود:١٠٨] السعداء: هم أهل السعادة الحقيقية في الآخرة: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:١٠٨].

{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} [هود:١٠٨] من يخرجهم؟ من يكدر عليهم؟ هل يخشون دولة تعتدي على حدودهم في الجنة؟ هل يخشون عدواً يتسور بيوتهم؟ هل يخشون لصاً يتسلل عبر نوافذهم؟ هل يخشون بلاءً من فوقهم أو من تحتهم؟ ولم يخشون، وهم في الأمن والطمأنينة عند مالك الملك رب الأرضين والسماوات؟ {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:١٠٨].

من ذا الذي يقطع نعيماً أعطاكه الله جل وعلا، أما لذتك في المنصب فأنت مهدد بالعزل عنها، وأما لذتك بالصحة فأنت مهدد بزوالها، وأما لذتك باجتماع الأحباب فأنت مهدد بفراقك عنهم أو فراقهم عنك أو بلية تشتت شملكم، وأما لذتك بالغنى فالفقر لا تدري من أي الأسباب يأتي، وأما لذتك بكل شيء فإنها مهددة مخطورة بأدنى شيء يخطر أو لا يخطر على بالك، أما لذات الآخرة فكما قال الله جل وعلا: ((خَالِدِينَ فِيهَا)) [هود:١٠٨]، (يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت).

نعيم الجنة خلود أبدي، وعجبنا لمن يركن ويطمئن ويغفل في هذه الدنيا وهو يعلم أن أمواله ستقسَّم من بعده، سيقتسمها الورثة، مقاسمة الشريك الشحيح لشريكه، بل إن بعض الورثة لا يرضى الإجمال في القسمة؛ بل لا بد أن يأتي بالمحاسب القانوني الذي يدقق كل صغيرة وكبيرة، وكل مدخل ومخرج، نسيناك يا ميتنا، نسيناك يا مورثنا، نسيناك يا صاحب المال، الشأن شأن التركة، أما أنت فقد انتهيت.

إذاً، فدنياك: مالك يقسم بعدك، وزوجتك ضجيعة الفراش طالما سمعت عبارات الود والصفاء -وليس هذا بإثم ولا عيب- ستتزوج بعدك، وتمنح الذي يليك ما منحتك، ودارك سيسكنها أجنبي سواك، وقد يطرد أولادك منها، ويسكنها رجل آخر مع أبناء آخرين.

هذه الدنيا: لا تبك على عمر منصرم؛ إلا إذا انصرم في معصية أو انصرم في غفلة عن طاعة الله سبحانه وتعالى.

أيها الأحبة في الله: هكذا فلنعلم أن شأننا في هذه الدنيا شأن المودع لا محالة، أرأيت رجلاً دخل صالة المغادرة في المطار فجاء وجلس ونصب خيمة، أو بنى داراً، وأعد طعاماً، وافترش فراشاً وطلب لذة، لا.

تجده يتقلب وينتظر الإقلاع والرحيل، فكن هكذا، كن هكذا، كن كأنك غريب أو عابر سبيل، وخذ من دنياك لآخرتك، ومن نفسك لنفسك، ومن شبابك لهرمك، ومن صحتك لسقمك، فبادر هل تنتظر إلا هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو فقراً مطغياً، أو غنىً ملهياً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر.

معاشر المؤمنين: الدهر قُلَّب، والأيام دول، ماذا كان شأن المسلمين في البوسنة والهرسك قبل عام مضى؟ كانوا على حال لا نقول حال السعداء، لكنها لا تقارب بأحوالهم الآن.

وأحوال المسلمين في بورما وكشمير، تتقلب الأيام والأعوام عليهم، وقد عاشوا عاماً أو أعواماً مضت في طمأنينة، فانقلب عليهم الأعداء، وخذوا مثالاً على البلاء، قال مسلم من كشمير في سجون الهندوس -عبدة الأبقار- قال: طلبت ماءً لما بلغ بي العطش مبلغاً، فجاء جندي من السيخ، وأجبرني بعض الجنود على فتح فمي، فبال الهندوسي في فم المسلم.

أحوال وأمور أسأل الله ألا يغير علينا، أسأل الله ألا يفتننا، أسأل الله ألا يبتلينا.

إن هذه النعم لو رأيت ما يقدمه كثير من الناس اليوم في مقابلتها، لما رأيت إلا أفلاماً يتبادلونها ويسهرون عليها، وغفلات عن صلاة الجماعة، وإعراضاً عن الانقياد والاتباع، واشتغالاً بالمال من أي طريق.

ولما دعي من دعي للاكتتاب في بنوك الربا، توافد الكثير من الأقوياء الذين قد لا يخشون أن يمسخ الله عافيتهم، يقولون: شكر النعمة اكتتاب في الربا، وشكر الطمأنينة أسهم في الحرام، وشكر هذه الآذان معصية لله جل وعلا.

ولا حول ولا قوة إلا بالله {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:٧٨].

فما دام أن العمر منقضٍ، فانتظر ما يأتيك واستعد، فإن عامك الذي مضى قد مرض فيه أصحاء، وصح فيه سقماء، وعز فيه أذلاء، وذل فيه أعزاء، وتفرق فيه مجتمعون، واجتمع فيه متفرقون، ومات فيه أحياء، وولد فيه أجنة، فالحمد لله على كل حال الذي لا تشغله حال عن حال.

أيها الأحبة: ولى العام وانقضى، فماذا قدمتم لعام تستقبلونه؟ وماذا قلَّبتم في عام تودعونه؟ أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المعتدلين.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.