للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اعمل قبل أن تعجز]

فكم من نفسٍ رجت أمراً وعجزت عن بلوغه فما أدركته، رجل أعرفه أحسبه من الصالحين، يحدثني ولده يقول: خرجت في رمضان المنصرم مع والدي من المسجد بعد صلاة المغرب، أفطرنا في البيت، وخرجنا إلى المسجد، وصلينا، وخرجنا من الصلاة، قال: فالتفت إليَّ والدي، وقال: يا ولدي فلان، الله أكبر كم من نفس لم تبلغ هذا الشهر، قال: فقلت: صدقت يا أبي! أين فلان وفلان ممن نعرفهم؛ ماتوا وما بلغوا هذا الشهر، قال: ثم التفت إليَّ أخرى، وقال: يا ولدي، وكم من نفسٍ لم تُكمل هذا الشهر، وكان هو رحمه الله ممن لم يُكملوا هذا الشهر، مات في يوم تاسع أو عاشر رحمه الله رحمة واسعة وجمعنا به في الجنة، فقد علمته رجلاً من أهل الخير والصلاح.

عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل) وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: [إذا أمسيت، فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك] رواه البخاري.

فهذا أصلٌ جليلٌ عظيمٌ في قِصر الأمل في الدنيا، وينبغي للعبد أن يُعد، وأن يجهز، وأن يجمل داره في الآخرة حتى يتهيأ للانتقال والرحيل إليها بإذن الله جل وعلا.

أيها الأحبة! إن من زين داراً، واشتغل بها، وجملها، وطيبها، اشتاق إلى أن يرتحل إليها، وإن من خرب داراً، كره أن ينتقل إليها، ولو أن واحداً منكم أُعطي أرضاً، فحفر بها بئراً، وغرس بها نخلاً، وشق فيها أنهاراً، وجعل عليها سوراً وجداراً، وجعل فيها أزهاراً وأشجاراً، وجعل فيها حدائق وجنات، وطيبها بكل ما تُزين به الحدائق والبساتين أتظنونه يُهملها؟ سترونه في كل يوم يزورها، ويعتني بها، ويسوؤه أن ينقطع الماء عنها، ويسوؤه أن يخرب شيء من ثمارها وأشجارها، ولا يتركها نهبةً لمن أراد أن يدخلها، أو يعبث فيها.

ولو أن آخر أعطي أرضاً فتركها، ولم يغرس بها نخلاً، ولم يحفر بها بئراً، ولم يجعل فيها شجرة، ولم يجعل لها سوراً، ثم قيل له: إن بني فلان أناخوا رواحلهم وأباعرهم فيها، فإنه لا يتأثر، لو قيل له: إن تلك الأرض أصبحت تُرمى فيها القمامات والزبالات ما يتأثر، لأنه ما تعب فيها.

فكذلك الآخرة إذا اعتنينا بمواقعنا فيها، نغرس فيها أعمالاً صالحةً، نحفر فيها آبار العمل الصالح والأوقاف النافعة، نبني عليها أسواراً منيعة، نحصنها بالتوبة وبالذكر وبالاستغفار، فإنها تهمنا، وإذا جاءت ملائكة الموت تنقلنا إلى هذه الدور التي طيبناها وغرسناها وزيناها، رضينا وفرحنا أن ننتقل إليها، أما عبدٌ ضيع آخرته، فلا شك أنه يكره أن ينتقل إليها، ولذلك قيل للحسن البصري: لماذا نحب الدنيا ونكره الموت؟ فقال: [لأنكم عمرتم الدنيا، وخربتم الآخرة، فتكرهون أن تنتقلوا من العمار إلى الخراب].