للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مفهوم لا إله إلا الله]

أيها الأحبة: إن لا إله إلا الله -كما قلت- لا تنحصر في مجال معين، ولو فهمها المسلمون هذا الفهم وقاموا بها هذا القيام لما وجدت حالنا اليوم كما نحن عليه الآن: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:١٦٢ - ١٦٣] هذه لا إله إلا الله من الحياة إلى الممات، من البداية إلى النهاية، من الظاهر إلى غاية الباطن؛ في الشكل والمضمون، وفي القلب والقالب، في الصورة والحقيقة، في العبارة والمعنى، ينبغي أن نفهم لا إله إلا الله، إننا لا نستطيع أن نزعم أننا وفينا لا إله إلا الله وإن اعتقدنا إننا لا نستطيع أن نزعم ونحن نقول: لا إله إلا الله، لا نستطيع أن ندعي أننا وفيناها حقها، وإن اعتقدنا الاعتقاد الصحيح، وإن نجونا من الوقوع في شرك العبادة وإن وإن إلى آخره، فإن حق لا إله إلا الله بحذافيره وأطرافه وكل مستلزماته أمر عظيم، لكن علينا أن نجتهد ما استطعنا، وأن نجاهد أنفسنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:٦٩].

إنني أعلم أن ممن يقولون: لا إله إلا الله ولا يفهمون أبعادها ومعناها، يقولون: إلى متى ونحن نظل نتحدث عن لا إله إلا الله، أما آن لنا أن نطرح الطروح العملية؟ أما آن لنا أن نخرج إلى البرنامج التطبيقي؟ أما آن لنا أن ندع الكلام في لا إله إلا الله لنتحدث عن المرحلة القادمة؟ نقول لأولئك: أيها الأحبة! إن لا إله إلا الله ليست شيئاً قائماً بذاته والدين أو نواحي الحياة أمراً مستقلاً آخر، بل إن لا إله إلا الله صميم الحياة، والحياة في صميم لا إله إلا الله، ومن ثم فحديثنا عن كل صغير وكبير يربطنا بلا إله إلا الله، إن كنا عباداً لله عز وجل نفتخر ونتشرف بهذه العبودية، لنتوجه إلى لا إله إلا الله، وليكن قولنا، وسرنا وجهرنا، ونهينا واحتسابنا في لا إله إلا الله وفي مقتضاها، حتى لا نخرج عن هذه المسألة؛ لأن لا إله إلا الله هي الأمر كله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:١٦].

لقد غلب على عقل كثير من الناس في واقعنا المعاصر أن قضايا العلم، والحضارة والتكنولوجيا، والأدب والفكر، والاجتماع والسياسة هي قضايا موضوعية بحتة أو فنية بحتة، أو قضايا علمانية لا بد أن تخرج عن إطار الدين، وهذه القضايا يستوي فيها المؤمنون والكافرون، وأن سعي الأمة إلى حيازة التقدم يجب أن يكون موضوعياً بحتاً لا علاقة له بالعقيدة، وإنما ينطلق من واجب إزالة التخلف، واللحاق بركب الحضارة، والسعي إلى إيجاد المجتمعات الحديثة، ومعايشة العصر الذي نعيش فيه، نقول: هذا خطأ ووبال وضلال، إن هذا التخلف العقدي الذي ابتليت به بعض شعوب المسلمين في قصر مفهومها، وضيق مفهومها للا إله إلا الله، أخرج من هذه المفاهيم فروض الكفاية، أو شيئاً من الواجبات التي لا ينبغي للمسلمين بصفة خاصة أن يقعوا فيها، أو يتضجروا من الحديث عنها، لأنها شاملة لكل نواحي الحياة، حتى نرى الحياة كلها من صغيرها وكبيرها مرتبطة بلا إله إلا الله في إصلاح شامل، ودعوة مستمرة، وجهاد لا يلين، حتى يعبد الله وحده لا شريك له؟ (لا إله إلا الله) هي الروح والنور، وهل رأيتم حياة في شخص لا روح له؟ (لا إله إلا الله) هي الروح والنور، وهل رأيتم رجلاً لا نور له إلا ويتخبط في الظلمات، ويسقط في المهاوي والدركات؟ إن معرفة الله بأسمائه وصفاته، والتوجه إليه بالدينونة توجهاً شاملاً، والأخذ بمنهجه الذي أنزله في محكم كتابه؟ وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم هو الدواء الشافي لأوجاع البشرية وآلامها، وهو الروح لأرواحنا، والنور لنفوسنا، وبغير لا إله إلا الله وهي الروح والنور لا حياة ولا ضياء، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:٥٢] نعم سمى الله هذه الكلمة وما تشتمله من الوحي المنزل روحاً ونوراً، فهو للأرواح نور، يمدها بالحياة الحقة، والإنسان بغير الروح يعيش حياة بهيمية؛ أو يموت وإن كان يتحرك بين الناس، يعيش عيشة بهيمية يأكل ويشرب وإلى غير ذلك ولكنه كما قال الله عز وجل: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:٤٤].

وبدون (لا إله إلا الله) فإننا أموات، وإن أكلنا وشربنا، وعلى الأرض مشينا: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً} [الأنعام:١٢٢] لقد علمنا ديننا كيف نعيش مع لا إله إلا الله، كما أن لا إله إلا الله في السياسة والاقتصاد والتربية والاجتماع والإعلام وما سوى ذلك فهي أيضاً في زواجنا وطلاقنا، ونفقاتنا مع زوجاتنا، ومع الحضانة والإيلاء والظهار، ولا إله إلا الله في الخطبة والنكاح، وفي الوليمة والضيافة والجوار، ولا إله إلا الله هي في العلاقات والأُخُوَّة، والبيع والشراء والإجارة، والمساقاة والمزارعة والوكالة والضمان، لا إله إلا الله هي في كل هذه الأمور جميعاً، لأننا نرقب فيها ما يرضي الله فندنو إليه، ونرقب فيها ما لا يرضيه فنبتعد عنه، علمنا هذا الدين كيف نرتبط بلا إله إلا الله.

إن مما يدلنا على أن الأديان غير الإسلام محرفة، وأن الشرائع غير الإسلام مبدلة أنك لا تجد في غير الإسلام ديناً يبين لك أدق تفاصيل حياتك، حتى في أول مراحل الحياة يوم أن توضع النطفة في رحم المرأة، للإسلام في ذلك توجيه، وللإسلام في خروج الجنين توجيه، وفي تسميته توجيه، وفي رضاعته توجيه، وفي حضانته ونفقته توجيه، وفي تربيته وتسميته توجيه، وفي معاملته توجيه، وفي علاقاته بمن حوله توجيه، إنك لا تجد هذه الدقائق إلا في دين الإسلام الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، لا تجد هذا إلا في كتاب قال الله فيه عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:٣].

إن هذا الشمول للا إله إلا الله، وهذا الكمال للا إله إلا الله يدلنا حقاً على أن هذا هو دين من عند الله، وما سوى ذلك فليس بدين ثابت أو سليم من الزيادة والنقصان، والتحريف والتبديل وغير ذلك.

علمنا ديننا كيف نعيش مع لا إله إلا الله إذا أصبحنا: (اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا، وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور) علمنا كيف نمسي: (اللهم بك أمسينا وبك أصبحنا، وبك نحيا وبك نموت وإليك المصير) علمنا كيف نستغفر، وكيف نقر، وكيف نتقرب إلى الله بسيد الاستغفار، وكيف ندنو من الله عز وجل رتباً ومراتب تقربنا من مرضاته عز وجل: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت -حتى في الاستغفار عودة إلى لا إله إلا الله- خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) أي: أعترف بذنبي، أقر بذنبي، وبهذه المناسبة فإن كثيراً من الذين يذنبون لا يحسنون الاستغفار، تعلموا سيد الاستغفار، وتعلموا الإقرار بين يدي الله عز وجل، إذا سجدت فاعترف بذنبك لله: اللهم يا من لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء! ما خفي عليك مقامي، ولم يعزب عنك شأني وأمري، في تلك الليلة، في ذلك اليوم، في تلك اللحظة فعلت كذا، أذنبت كذا، حصل كذا، انظروا كيف يعترف الجاني على المجني عليه، انظروا كيف يعترف المقصر في حق من ظلمه أو نال منه، يعترف اعترافاً تفصيلياً دقيقاً، ولله المثل الأعلى وهو الغني عنا، ينبغي أن نتذلل لله عز وجل، وأن نلظ بكل ما يرضي الله عز وجل بمناداتنا له بأسمائه وصفاته.

اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا، وأهلنا ومالنا، هذا من الدعاء وأسوقه بلفظ الجمع لعله أن يستجاب لنا: اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وشمائلنا ومن فوقنا، ونعوذ بك اللهم أن نغتال من تحتنا.

سبحان الله العلي العظيم! هذا الدين علمنا أن نعيش مع لا إله إلا الله في كل حال، حتى إذا لبسنا ثوباً جديداً، حتى إذا دخلنا المسجد، حتى ولو خرجنا من المسجد، حتى وإن أصابتنا المصيبة، إذا نزلت الطامة المدلهمة لا فرج إلا بلا إله إلا الله كما ثبت في البخاري أن دعاء الكرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم) كان صلى الله عليه وسلم يعلم أن في شخصيته قدوة سامية جلية، كيف يحيا الإنسان في معية الله، وكيف يكون في كنف لا إله إلا الله صابراً إن أصابه ضر، شاكراً إن أصابه ضير، متطلعاً إلى الله عز وجل، لاجئاً إلى الله، مستعيناً مستغفراً، مسلماً بقضائه وقدره، هذه حال لا إله إلا الله: {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:١٩١].

إذاً فيا أيها الأحبة: إن لا إله إلا الله لم تنزل لتكون كلمة تنطق بها الألسنة، وإنما جاءت ومن أجلها تقاتلت هذه الأمم مع أنبيائها، ومن أجلها وجدت الجنة والنار، حتى تقيم مجتمعاً وكياناً متكاملاً على ما يرضي الله عز وجل، لا إله إلا الله جاءت ليتشكل الواقع البشري وفق كتاب الله، وسنة رسوله، فمن حقق خيراً فليستزد، ومن وقع في إثم أو خطيئة فليستغفر الله، وليعد وليؤوب إلى الله عاجلاً غير آجل.