للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تأملات في قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه]

وتأمل قول الله عز وجل -أيضاً- في سورة مريم، وفيها احتسابٌ وأمرٌ ونهيٌ من ابنٍ لأبيه، من نبيٍ مؤمنٍ موحدٍ بل هو إمام الموحدين لأبيه الذي لا يزال على الشرك، إنه إبراهيم عليه السلام يأمر أباه بالتوحيد وهو أعرف المعروف، وينهى والده عن الشرك وهو أنكر المنكر، فيقول سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} [مريم:٤١ - ٤٥].

نعم، أيها الأحبة: من تأمل هذه الوقفة الجميلة الرائعة التي تجسد مشهداً وصورةً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في محيط أسرة الولد المؤمن يأمر وينهى ويحتسب ويدعو أباه المشرك، في هذه الآيات تأمل هذه المسائل: صدر إبراهيم عليه السلام كل نصيحة لوالده بقوله: يا أبتِ! مذكراً والده برابطة الأبوة التي هي من أقوى الروابط، ومن شأنها أن تجعل كلا الطرفين حريصاً على مصلحة صاحبه.

الثانية: أنه طلب من والده أن يتدبر في فعله، حيث أن الأب يعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنه شيئاً.

الثالثة: أنه لم يصف والده بالجهل المفرط؛ لأنه كان في مقام الدعوة، فيتألفه ويستأنس حاله، ويتقرب إليه ولا يتهمه بجهلٍ مطبقٍ وغباءٍ فاحشٍ وظلماتٍ بعضها فوق بعض، وإن كان الشرك جامعاً لهذه الصفات، لكنه في مقام الدعوة يحتاج أن يتألفه، بل بين له بأدبٍ جم: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم:٤٣] إن معي طائفة من العلم ليست معك، ثم أخبر أباه أن إعراضه عن توحيد الله بالعبادة ليس إلا بسبب اتباعه للشيطان الذي هو عدو له، ثم لم يقل لأبيه: إن عذاب الله لاحقٌ بك مرتبطٌ بك، بل أخبر بأدبٍ رفيع أنه يخشى أن يصيبه عذاب من الرحمن.