للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معركة حنين وقوله صلى الله عليه وسلم (لله أرحم بعبده من هذه بولدها)]

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من النار.

معاشر المؤمنين: لما خرجت هوازن بقيادة زعيمها عوف بن مالك وقد حزب الأحزاب وجمع الجموع لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من ضلال أمره وسفاهة رأيه أن قال: يا معاشر العرب! ليخرج كل منكم بماله وأهله وولده حتى يثبت القوم، ويقاتل الرجل دون عرضه وإزاره، فما كان من القوم إلا أن استجابوا له، وخرجوا بنسائهم وأطفالهم وأموالهم، وسمع دريد بن الصمة بهذا، وكان كهلاً عجوزاً كبيراً لا يثبت على ظهر الخيل، قال: ما لي أسمع بكاء الصغير ورغاء البعير وثغاء الشاة؟ قالوا: هذا عوف بن مالك زعيم هوازن أقسم أن يضع ذبابة السيف على صدره ويتكئ عليها حتى يخرج السيف من ظهره إن لم تسمع العرب رأيه فيما رأى، قال: بئس الرأي ما رأى! إن المهزوم لا يرده شيء.

فما كان من القوم بعد أن كان ما كان من أمر تلك المعركة- معركة حنين - في بدايتها أصاب بعض المسلمين عجب، وقالوا: لن نغلب اليوم من قلة، ليس علينا خطر أو هزيمة نخشاها لأننا كثير {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:٢٥] كانت كثرة تعلق القوم فيها بنوع سبب بشري فكانت من أسباب الهزيمة، لأن النصر لا يتنزل إلا على أمة تقطع الآمال بأسباب البشر وتعلق الآمال والرجاء بالله وحده لا شريك له.

فما كان من القوم بعد أن كمن المشركون لهم في وادي أوطاس، ثم فاجئوهم بمطر بالنبال إلا أن فروا ولم يبق منهم إلا قليل، ولم يثبت إلا الشجاع القائد المجاهد الإمام النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت على بغلة وليست فرساً أو خيلاً تحسن الكر والفر في المعارك، ثبت على بغلة ولم يخف القائد موقعه، بل صاح بأعلى صوته: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، واشتد الكرب، وادلهم القوم، والتفوا يريدون إزهاق روح رسول الله، ويريدون قتله صلى الله عليه وسلم، فثبت وخيار الصحابة حوله، ثم التفت صلى الله عليه وسلم وهو يقدم على القوم ويفل صفوفهم ويكسر جمعهم ويبيد خضراءهم، فلما التفت إلى العباس، وقال: يا عباس! الحق بالقوم وصح بهم: يا أصحاب السمرة! يا أصحاب سورة البقرة! إن النبي صلى الله عليه وسلم يدعوكم أن تعودوا، وكان العباس جهوري الصوت فنادى فيهم فسمعوه، ومن شدة فرار بعض القوم أن بعضهم لم يستطع أن يثني رأس راحلته أو خيله أو بعيره ليعود إلى موقع المعركة، فرمى بنفسه من ظهرها وعاد راجلاً؛ استجابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم نصرهم الله بنصره وثبتهم بثباته {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم:٢٧] ثم كسروا جموع القوم، وكان كل ما جمعه عوف بن مالك من الخيل والشاة والإبل والنساء والأطفال غنيمة وسبياً للمسلمين، فاجتمع للمسلمين ذاك اليوم شيء عظيم من الفيء والغنائم والسبي، فجاء القوم يريدون بعض المال من رسول الله، وكيف يمن عليهم صلى الله عليه وسلم بمال وهو الذي خير أن تذوب جبال الدنيا ذهباً تحت قدميه فلم يرض بهذا واختار أن يشبع يوماً ويجوع يوماً؟! كيف يمن أو يبخل بمال من هذه همته في الآخرة وهذا زهده في الدنيا؟ فجاء الأقرع بن حابس، وأعطاه مائة من الإبل، وجاء عيينة بن حصن، فأعطاه مائة من الإبل، وجاء حكيم بن حزام، فأعطاه مائة، ثم سأل ثانية، فأعطاه مائة، ثم سأل ثالثة، فأعطاه مائة، ثم جاء أعرابي وقال: يا رسول الله! ما أطيب هذا الوادي وما فيه من النعم والشاة! قال: خذه فهو لك، ثم جاء من جاء والنبي يعطي ويعطي ويعطي؛ لأن همته أعظم من ذلك، همته وفكره وقلبه ولبه وفؤاده نصر المسلمين، ونشر التوحيد وتعبيد العباد لله، بعبادة الله وحده لا شريك له، لأن الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة.

وكان كبار الصحابة حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيطون به إحاطة النجوم بالقمر ليلة البدر، فرأوا بين السبي امرأة كأنها مجنونة، كأنها قد أصابها مس أو جنون، تفتش يمنة ويسرة وتقبل وتدبر وتركض وتجيء وتعود حتى شقت الطريق بين القوم، ثم لقيت طفلاً فأخذته واحتضنته وضمته وقبلته، ثم كشفت ثديها، لم تشعر بحالها بين القوم، وألقمته في فم الرضيع وهي تبكي، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر والصحابة ينظرون، فقال صلى الله عليه وسلم: (أترون أن هذه المرأة تقذف بولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعبده من هذه بولدها).