للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الدنيا قصيرة فلا تقصرها بالأكدار أيضاً

ثم يا أيها الخائف! يا أيها المتشائم! يا أيها المعتزل! يا أيها المسلم! تيقن أن الدنيا وإن طابت، فإنها قصيرة، فلا تطيلها بالأكدار، فقارن ما أنت فيه من النعم بما حل بك من مصيبة؛ ستجد أن نعمك أو أن النعم التي تحيط بك ملايين، وأن المصيبة واحدة، فلا تضيع ملايين بذرة، أو درجة واحدة، وإن كان همك، أو غمك، أو خوفك، أو شرودك، أو قلقك، أو جزعك بسبب أذى الناس لك، فاعلم أنه لن يسلم أحد، إن الأنبياء ما سلموا.

ليس يخلو المرء من ضدٍ ولو حاول العزلة في رأس الجبل

لو كنت كالقدح في التقويم معتدلاً لقالت الناس هذا غير معتدلِ

فما عليك إلا أن تصبر، إن أناساً تجدهم في جزع، وفي قلق، وفي شرود وخوف، فإذا سألته قال: يتكلمون فيَّ، يقولون عني، يتناقلون سيرتي، يذكرون عني! يا مسكين! أتريد لنفسك ما لم يشأ الله أن يجعله لنفسه؟ لو شاء الله ما قال عبدٌ من عباده في جلاله كلمة واحدة، ومع ذلك: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:٦٤] وقالت اليهود: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:١٨١] أتريد لنفسك ما لم يكن لله؟ أتريد لنفسك ما لم يكن لرسل الله عليهم وعلى نبينا صلوات الله وسلامه؟ تجد من الناس من يجزع ويغضب؛ لأن الناس تكلموا فيه، يا مسكين! أفلا تأخذ العفو وتأمر بالعرف وتعرض عن الجاهلين.

يا مسكين! يا أيها المعتزل الشارد بسبب هذا! قال الله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:٣٤] أليس لك في صلة من قطعك وإعطاء من حرمك، والعفو عمن ظلمك: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة:٢٣٧] أليس لك في هذا عوض؟ فإن الله يجزيك به خير الجزاء.

اللهم اغفر لمن ظلمنا، اللهم اغفر لمن تكلم فينا، اللهم سامح من شتمنا، اللهم إنا نشهدك أنا نسامح من تكلم فينا، ومن سيتكلم.

ما الفائدة أن نجعل هذا القلب الصغير يحمل بغضاء وعداوات، ونحن نملك أن نملأه بالذكر والمحبة والوفاء، وسلامة القلب، وطيب الأنفس، حتى وإن تكلم من تكلم، حتى وإن قال من قال، حتى وإن افترى من افترى؟ اللهم سامحه إلا إن أراد بذلك فتنة في الدين وإساءة للدين وأهل الدين، اللهم فعجل عاقبته أو اهده قبل ذلك.

وأخيراً: ربما تجد بعض الناس قوله -كقول القائل يوم أن ترى شرود ذهنه، وقلق نفسه وجزعه وخوفه، وتألم نفسه- يقول:

نسجت لهم غزلاً رفيعاً فلم أجد لغزلي نساجاً فكسرت مغزلي

نصحت فما سمعوا، وأعطيت فما شكروا، وأمرت فما ائتمروا، وزجرت فما انزجروا.

يا أيها المحب! لا تنتظر من الناس شكراً، اشكر الله جل وعلا، اشكر الله سبحانه وتعالى، وافعل المعروف لوجهه، ولا تنتظر من أحد الناس شكراً، لا تقل: ليتني لم أفعل معروفاً، فإني لم أر من صاحبه إلا تنكراً أو تسلطاً، لا.

بل احمد الله أن أسديت معروفاً، وأن أعانك على فعل معروف، واحمد الله أنك معطٍ لا آخذ، وأنك نافعٌ لا منتفع، وأنك يدٌ عليا ولم تكن يداً سفلى، لا تنتظر الشكر من أحد، فإنك إن انتظرت من الناس شيئاً، طال بك الانتظار، ولن ينفعك الناس بشكر أو مديح أو هجاء، ولكن ينفعك ابتغاء ما عند الله سبحانه وتعالى.