للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عمومية لا إله إلا الله]

أيها الأحبة: كلمة لا إله إلا الله، لماذا وقفت الأمم السالفة -وليست قريشاً وحدها- منها موقف التحدي والعناد موقفاً واحداً؟ إن جميع هؤلاء الأقوام وقفوا من أنبيائهم موقف عداوة، فهذه ثمود، وهؤلاء قوم نوح، ومدين، وعاد، والمؤتفكات، كلهم وقفوا من لا إله إلا الله موقف التحدي والعناد، والمصارعة وعدم التسليم، لماذا؟ وحق لنا أن نسأل عن ذلك.

نعم أيها الأحبة: إنهم يدركون ما تعنيه هذه الكلمة، واسمعوا قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود:٢٥ - ٢٧] هذا موقفهم من لا إله إلا الله، لما قال لهم: اعبدوا الله مالكم من إله غيره.

وأما عاد لما قال لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ * قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود:٥٢ - ٥٣].

وأما ثمود لما دعاهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:٣٢] ثم ذكرهم بنعم الله عليهم التي تدعوهم إلى توحيده، قال لهم: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ * قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:٦١ - ٦٢].

وهذه من أساليب أهل الضلالة؛ إذا دعاهم داع إلى الهدى، قالوا: كنا نظن أن لك عقلاً راجحاً، كنا نظنك عاقلاً، كنا نظنك فقيهاً، كنا نظنك فاهماً، أفتدعونا إلى مثل هذا الكلام وتقوله؟ إلى غير ذلك مما ورد وكان من الأنبياء مع أقوامهم يوم أن وقفوا في مواجهة لا إله إلا الله.

أيها الأحبة: لعل من أخطر القضايا التي جعلت هؤلاء يقفون في مواجهة لا إله إلا الله هو منهج العلمانية القديمة والحديثة، إن العلمانية المعاصرة هي فرع وامتداد لذلك الضلال القديم، الذي جعل أمم الأنبياء تقف في وجوه الأنبياء لترد هذا الهدى، ولتجعل الأصابع في الآذان، ولتستغشي الثياب، ولتصر على عنادها بعداً عما يدعون إليه، إن تلك الأقوام الجاهلية قد استنكرت من رسلها أن يتدخل الدين في شئون الحياة، إن تلك الأمم يخيل لهم أن الدين فقط في حرية شخصية، وأن الدين فقط في محراب وخلوة، في مسبحة وسجادة، ولما جاء من يدعوهم ليقول: إن الدين يشمل جميع نواحي الحياة وقفوا في ذلك، وهم يعلمون معنى لا إله إلا الله؛ ألا يكون في الحياة دقيق ولا جليل، صغير ولا كبير، كثير ولا قطمير إلا للا إله إلا الله فيه أمر وتوجيه.

نعم! لقد عاش أولئك الطواغيت الذين واجهوا الأنبياء ومن تابعهم على منهجهم يحللون كيف ما يشتهون، ويحرمون كيف ما يريدون، ويفعلون ما يحلو لهم، لا يجدون من يردهم إلى لا إله إلا الله، فعلموا أن هذه الكلمة وأن الدين جاء ليقطع عليهم لذَّاتهم، وينغص شهواتهم، ويغير عليهم أمورهم، فقالوا: لا.

لا نقبل هذه.

وأبرز نموذج لهذه القضية: اعتراض قوم شعيب على رسولهم، قال الله عز وجل عنهم: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٨٥] ثم لا إله إلا الله أخذت تفصل وتوجه حتى في أدق القضايا الاجتماعية والاقتصادية: {وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود:٨٤ - ٨٥] لو كانت مجرد لا إله إلا الله كل يقولها ويمضي أولئك في غشهم وفي تطفيفهم في موازينهم، وفي شهواتهم ولهواتهم وما اعترضوا عليه، ولكن لما جاء لتتدخل لا إله إلا الله في أدق شئون حياتهم اعترضوا اعتراضاً عظيماً، إنهم لم يعترضوا فقط على الجانب العقدي من هذه الكلمة حين دعاهم رسولهم إلى نبذ كل آلهة تعبد دون الله، وإنما اعترضوا أيضاً بروح علمانية: كيف يدخل الدين في حياتنا، فقالوا: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:٨٧].

إذاً العداوة والعناد هل هي من أجل هذه الكلمة لفظاً ونطقاً، أم من أجل مقتضاها ومعناها؟ لو كان العناد من أجل هذه الكلمة نطقاً لما كان لقريش أن تزج بفلذات أكبادها وأجمل شبابها في مواجهات مع النبي صلى الله عليه وسلم، لتطير الرءوس، ولتسيل الدماء، ولتتناثر الأشلاء في معسكر الإيمان ومعسكر الشيطان اللذين يتواجهان ويتجابهان ويتصارعان.

العداوة من أجل الكلمة ومقتضاها، لو كانت كلمة فقط لكان كل يسعد بها ويقولها غير آبه بما تقتضيه وما تلتزمه، إذ النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا قومه إليها قال: (يا معشر قريش! قولوا: لا إله إلا الله كلمة واحدة تدين لكم بها العرب، وتدفع لكم بها الجزية العجم، فقال أبو جهل: نعطيك عشراً يا محمد -أي نعطيك عشر كلمات لا كلمة واحدة تجعلنا بها سادة للعرب، وملوكاً على العجم يدفعون لنا الجزية- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: قولوا: لا إله إلا الله، فقال شيطانهم، وقائد ضلالهم وكبيرهم الذي علمهم العناد: تباً لك ألهذا جمعتنا؟ {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:٥]).

نعم أيها الأحبة! لا يتصور من قريش أن تقف موقف العناد كله، ولا يتصور من قريش أن تقف هذا الصراع العظيم إلا لأنها تعلم أن لا إله إلا الله سوف تغير حياتها، إن قريشاً كانت تفخر وتفتخر وتفاخر أن يوجد فيها شاعر كـ النابغة الجعدي، أو أن يوجد فيها شاعرة كـ الخنساء، أو يوجد فيها نابغ في مجال من المجالات، لماذا لم تفتخر قريش وهذا نبي يخرج فيها؟ نعم، كان في ظنها أن تفتخر لو كان هذا النبي لا يتدخل في سلطتها، وفي زعاماتها ورياساتها، وفيما تفرضه على الناس من حولها، ولكن لما جاء محمد صلى الله عليه وسلم بلا إله إلا الله، وأدركوا مضمونها، وكانوا يفتخرون بكل من ينسب أو يلفت أنظار قبائل الأمة من حولهم إليهم، يفتخرون به، ويتوجونه رياسة لكي ينال بذلك زعامة وفخراً وسؤدداً بين قبائل العرب والعجم، لما قال محمد وقد ظهر فيهم نبياً، وكان الواجب أن يفتخروا به، وقفوا في معاداته وعداوته، لأنه جاء بما لا يشتهون، جاء بما ينغص عليهم حياتهم.

إن لا إله إلا الله لم تأتِ فقط لتزيل الأصنام، وإنما جاءت لتحطم وتهدم كل انقياد لغير الله، وكل إذعان لغير الله، وكل تحاكم لغير الله عز وجل، جاءت لكي تلغي وتنسف هذه المرافق التي بنيت على أساس عرقي عصبي قبلي، ولتقرر: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣].

جاءت لتحد الناس على ميزان الحق، وصراط القسطاس المستقيم، فلا يبغي أحد على أحد: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:١٨٨].

جاءت لا إله إلا الله لترد النفوس عما ولغت وذلت وانحدرت فيه، ولترفعها إلى ما يرضي الله عز وجل، إن الذين يظنون أن لا إله إلا الله فقط لإزالة صنم يعبد على صورة وثن أو غيره فأولئك فهمهم قاصر.

إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال لـ عدي بن حاتم: (كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة، ستة في الأرض وواحداً في السماء، فقال: من لشدتك وكربك؟ فقال: الذي في السماء، فتلا النبي صلى الله عليه وسلم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:٣١]-أي: واتخذوا المسيح رباً من دون الله- فقال عدي: يا محمد! إنهم ما عبدوهم -يعني ما سجدوا لهؤلاء الرهبان، وما سألوا الرهبان تفريج الكربات وإغاثة اللفهات- فقال صلى الله عليه وسلم: أوليسوا يحرمون عليهم الحلال فيحرمونه؟ قال: بلى، قال: أوليسوا يحللون لهم الحرام فيستحلونه؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم إذاً) إن العبادة ليست سجوداً للأصنام، بل إن من أطاع غير الله معتقداًَ أن له حق التشريع والطاعة فذلك شرك وضلال مخرج من الملة، نعوذ بالله من الخذلان.

إن لا إله إلا الله لما خالطت شغاف القلوب، وباتت دماء تضخها هذه القلوب، وخفقات تنبض بها الأفئدة، وزاداً للأرواح قبل الأبدان، ونسمات تتعللها الأنفاس في الصدور، إن لا إله إلا الله لما خالطت شغاف النفوس هجرت الأعين نومها، وهجرت الأبدان راحتها، فأصبحت النفوس كباراً.

وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام

لما خالطت هذه النفوس لا إله إلا الله فسالت الدماء لأجلها، وطارت الرءوس، وأخرج مكنوز الأموال، وكل تبرأ من ماله ومن كل ما يثقله ويبعده عن مرضاة الله عز وجل.

أما في هذا الزمان كم الذين يقولون: لا إله إلا الله؟ أين الذين يقولون: لا إله إلا الله؟ مليار ونصف المليار.

يا ألف مليون وأين همُ إذا