للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الصحابة وخوفهم من محبطات الأعمال]

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: عباد الله! اتقوا لله تعالى حق التقوى، واسمعوا قول الله جل وعلا في محكم كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:٣٣].

معاشر المؤمنين! إن كثيراً من الناس في هذا الزمان قد يعملون أعمالاً شتى، وإن كانوا يريدون بها وجه الله جل وعلا، إلا أنهم يحدث منهم ما يكون سبباً لبطلان أعمالهم، وإحباط ثواب ما اكتسبته أيديهم من الخيرات، وذلك لأسباب عظيمة؛ وذلك لأمور كثيرة متعددة؛ ولكن أكثر الناس عن هذا غافلون.

تجد رجلاًَ صواماً قواماً، أو عابداً، أو مصلياً، أو صائماً؛ ولكن يحدث منه أعمال يجهل أنها قد تكون سبباً لبطلان عمله، وإحباط ثواب عمله، ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم على أكبر درجات الخوف والوجل من الله جل وعلا من هذه المسألة الخطرة جداً.

لما سمعت عائشة قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون:٥٧] {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:٥٩] إلى قوله جل وعلا {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:٦٠] قالت عائشة رضي الله عنها: (يا رسول الله! أهم الذين يزنون؟ أهم الذين يسرقون؟ أهم الذين يشربون الخمر؟ قال: لا، يا ابنة الصديق، أولئك أقوام يصلون ويصومون ويقومون ويتصدقون؛ لكن قلوبهم وجلة، يخشون ألا يتقبل الله منهم).

فانظروا إلى عظم عناية الصحابة رضوان الله عليهم بالإخلاص والمتابعة، ومع ذلك كل واحد منهم يده على قلبه، يرجو ثواب ربه، ويخشى حبوط عمله.

فما بال الكثير منا في هذا الزمان، عند أدنى حسنة، أو عند أدنى صالحة من الصالحات يظن أنها قد شقت عنان السماوات، وبلغت أعلى الدرجات، وكُتبت لا شك ولا محالة في سجل الحسنات، ولم يتفقد حسنته تلك، ولم يدقق ويتأمل فيما قدم.

إن كثيراً من الناس يرفعون أعمالاً تسقط عند أقدامهم، وما السبب؟ السبب هو عدم الإخلاص، أو وقوع سبب محبط.

كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك الشهيد الذي بشره الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، كان يسأل أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان، ويقول له: [سألتُك بالله، هل عدَّني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟].

إذا كان الفاروق إذا كان ابن الخطاب إذا كان عملاق الإسلام يخشى على نفسه من النفاق، فما بالنا نحن؟! وما موقعنا؟! وفي أي درجة نكون يا عباد الله؟! إن الكثير ليركع ويسجد ويخرج وكأنه قد ضمن الجنة، وكأن صلاته قد قُبلت، بلا تضرع وبلا خشوع وبلا سؤال ملحٍّ على الله أن يتقبل عمله، بل الكثير منهم يعمل العمل، وكله إدلال وعُجب، وكله بطر وإدلال بأن عمله لا شك قد وُضع في عداد أعمال الشهداء! من ذا الذي يمن على الله بعمله؟! ومن ذا الذي يستكثر على ربه حسنة من الحسنات، أو صالحة من الصالحات؟! معاشر المؤمنين! قال عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة: [أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق] وهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين شهد لهم الله جل وعلا في كتابه الكريم بالفضل وعلو الدرجة، واختارهم ثلة طيبة لصُحبة نبيه، أولئك الذين لو أنفق أحدنا مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه.

وكان الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة يقول: [يا ليتني طائراً يطير من فَنَن إلى فَنَن، وألقى الله جل وعلا كفافاً، لا لي ولا علي].

ذلك العملاق، ذلك الجبل الشامخ، ذلك القمة السامقة في تاريخ الإسلام، وفي صدر الدعوة، الذي صدق النبي يوم كذبه الناس، وآزر النبي يوم خذله الناس، يبكي خوفاً وجزعاً بين يدي الله جل وعلا، ويقول: [يا ليتني أقدم على الله يوم العرض الأكبر كفافاً، لا لي ولا علي].

وبعضُنا في هذا الزمان إذا ساءل نفسه، أو ناقش نفسه، أو حاسبها، قال: أنا فلان بن فلان، قدَّمتُ، وفعلتُ، وجاهدتُ، ورأيتُ، وقرأتُ، وحاضرتُ، وخطبتُ، وأتيتُ، ودعوتُ، وكل تاء الفاعل ينسبها إلى نفسه من الأعمال! فيا عجباً يا عباد الله! أين هذه النسبة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ومن التابعين؟! إياكم ونفسي من الغرور بالأعمال! إياكم والعُجب بالعمل! فإنه محبطة مهلكة، ولا حول ولا قوة إلا بالله!