للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الشباب في ميادين الجهاد]

وأما عن شأن الشباب في ميادين الجهاد وساحات القتال فشجاعة لا مثيل لها، ورباطة جأش لا نظير لها، بل إن كلماتهم تقدح بالفداء والتضحية، يرشون الأعداء بالدماء قبل أن تصلهم السيوف والسهام، عبد الله بن رواحة يودعونه وهو شاب متوجه إلى مؤتة أول معركة بين المسلمين والروم يقولون: يا ابن رواحة تعود إلينا سالماً؟ قال: لا،

لكنني أسأل الرحمن مغفرة وطعنة ذات فرغ تقذف الزبدا

وضربة بيدي حران مجهزة بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا

حتى يقال إذا مروا على جدثي يا أرشد الله من غازٍ وقد رشدا

شاب يعرف أنه قادم إلى الموت الزؤام، قادم إلى معركة هو يشتهي أن يموت فيها، لا يفكر كيف يهرب منها، أو ما هو الحال في المرد وما هو المصير في الرجوع! عجبٌ من أمر هؤلاء الشباب إنهم كشبابنا في حواسهم وجوارحهم، لكن قلوبهم تختلف عن قلوب شبابنا، لكن إيمانهم يختلف كثيراً كثيراً عن إيماننا، ومن هنا يتباين الناس، فلا يتباين الناس بأنوفهم ولا بأعينهم ولا بألوانهم ولا بطول قاماتهم وقصرها، وإنما يتباينون بهذه القلوب التي جمعت الإيمان وجعلت خوف الله وخشيته والخوف من عذابه والطمع في ثوابه جعلته رائداً يحركها في كل اتجاه أتت بالعجائب وأثمرت وأغدقت وأينعت وأعطت عطاء لا حدود له، وأما إن امتلأت القلوب بالشهوات واللهوات والغفلات، فلا تسل عن اهتمامها بسفاسف الأمور وخوفها وخشيتها وجبنها عن معاليها، كانوا يتوجهون إلى ساحات القتال والواحد منهم يعلم أن ليس بينه وبين الجنة إلا أن يراق دمه كيقيننا نحن أن ليس بيننا وبين الشارع إلا هذا الجدار، يقينهم في الجنة أصبح أحدهم يراه رأي العين، ما كان أمر شبابهم صارفاً لهم عن اليقين بما أعد الله من الثواب، وما يخشونه من العقاب، أما شهوات شبابنا اليوم فأصبح الواحد منهم إذا ذكر بالجنة أو خوف بالنار رأيت في قسمات وجهه وتيقنت من علامات تفاعلاته من هذا الخطاب أن بينه وبين الفهم واليقين بالخطاب أمداً بعيدا، أما أولئك فاستجابتهم الفورية وتفاعلهم العاجل مع الخطاب، والأمر والنهي دال غاية الدلالة على اليقين، وهذه مسألة من أعظم المسائل التي ميزت الأجيال القرآنية الفريدة، في العصور السالفة المجيدة، عن عصورنا هذه، ليست مصيبة الناس في هذا الزمان هي قلة علمهم، بل من أعظم مصائب الناس ضعف استجابتهم وضعف تفاعلهم وضعف انقيادهم وخضوعهم وإخباتهم لأمر الله سبحانه وتعالى، كان ذلك الجيل من الشباب وإن كانوا صغاراً لكن كانت نفوسهم كبيرة:

وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام

يقول سعد بن أبي وقاص: رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن نعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر يتوارى، فقلت: مالك يا أخي! فقال عمير بن أبي وقاص لأخيه سعد: إني أخاف أن يردني رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو يختبئ ليس خوفاً أن يشار إليه بالبنان فيختار من الذين يعرضون وتكون صدورهم مسرحاً للرماح وميداناً لطعن السيوف، لا، وإنما يتوارى خشية أن يرد وخشية أن يحرم طعنة، وخشية أن يحرم رمية بسهم، وخشية أن يحال بينه وبين أن تطير رقبته في سبيل الله، يتوارى حتى لا يراه النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول لأخيه سعد: إني أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرني، فيردني، وأنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة، شاب صغير، احتمال كبير أن يرد فلا يقبل في الجيش، يقول: لعل الله أن يرزقني الشهادة، قال: فعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ما خشيه عمير، فقد استصغره النبي صلى الله عليه وسلم فرده، فأخذ عمير يبكي وينتحب نحيب الثكلى التي ترى زوجها مذبوحاً أمامها، ويبكي بكاء مراً والدمع لا يقف مسفوحاً على خديه ويتوسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرجوه، ويريد أن يثبت بكل ما أوتي أنه قادر جديرٌ حقيقٌ أن يكرم ليدخل مع الجيش في ساحة المعركة، فيقبله النبي صلى الله عليه وسلم ويجيزه، يقول سعد: فكنت أعقد حمائل سيفه من صغره حتى يثبت السيف في يده ولا يسقط، قال سعد: فقتل وهو ابن ست عشرة سنة، لم يقف حد أمر أولئك الشباب إلى هذا، بل أصبحوا قادة على السرايا والجيوش.

عكاشة بن محصن جعله النبي صلى الله عليه وسلم أميراً على أربعين رجلاً في سرية، وزيد بن حارثة أمَّره النبي صلى الله عليه وسلم على سرية، وعمرو بن العاص أمَّره النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار في غزوة ذات السلاسل، وما خبر أسامة عنا ببعيد، فقد ولاه النبي صلى الله عليه وسلم قيادة جيش فيه كبار الصحابة، والشاهد أن أولئك الشباب وإن كانوا صغار الأعمار فإنهم كانوا كبار الأقدار.