للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تذكر الموت غايته الاستعداد والمبادرة]

أيها الأحبة! مصيبتنا أننا إذا تكلمنا عن الآجال لا يتخيل أحدنا أنه ربما هو الذي يوافقه، أو أن السامع لا يتخيل أن الأجل ينتظره، ولأجل ذلك علينا أن نكون مستعدين للقاء الله عز وجل، حينما نتكلم عن الموت ينبغي ألا نخرج من الكلام إلى الزاوية الخلفية أو الوجه المعاكس في هذه القضية، بعض الناس إذا تكلم عن الموت أخذ يبكي وانقطع عن العمل والإنتاج، وضيع قيمة الزمن، ما عاد يحترم هذه الأمور جميعاً، لا، نتكلم عن الموت بحيث يكون الإنسان مستعداً للقاء الله عز وجل من أول لحظة، تكلم عن الموت واذهب من الفجر إلى السوق وبع واشتر، وتكلم عن الموت، واذهب غداً إلى مصنعك وأنتج واصنع، وتكلم عن الموت واذهب إلى مدرستك وتعلم وعلم، وتكلم عن الموت وقف على حدودك واحرس وراقب، وتكلم عن الموت، وكن منتجاً إيجابياً فاعلاً قوياً نشيطاً، ليس الكلام عن الموت من أجل البكاء والانكسار في المساجد والخلوات، الكلام عن الموت من أجل الاستعداد: (واتق المحارم تكن أعبد الناس) فلا يغرنك ثناء الناس عليك، أنت أدرى بنفسك وكما يقول ابن الجوزي رحمه الله: يا ناقص العقل! لا يغرنك ثناء الناس عليك، فإن أعجبوا بك فإنما أعجبهم جميل ستر الله عليك.

فلا يغترن أحدٌ منا بنفسه، أو تغره نفسه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:٣٣] إما أن يغرك الناس، أو تغرك دنياك، أو تغرك العافية، أو يغرك الغرور، من هو الغرور؟ هو الشيطان الذي يوسوس ويسوف، ويعلل ويرجي، ويجعلك تسوف هذه التوبة حتى تلقى الله عز وجل وأنت عاص.

أحبتنا في الله! الحديث بصدقٍ وصراحة أقرب إلى النفوس من التعليل، ماذا لو أن أحدنا قيل له: إن ملك الموت ينتظرك عند باب المسجد! أو لو أن ملك الموت دخل على هؤلاء الحاضرين وقال: يا عباد الله من أهل شرورة! من منكم مستعدٌ للقاء ربه الآن؟ هل فينا أحد مستعد؟ لا والله، نقول له: انتظر لحظة دعنا نسدد الديون، دعنا نرجع حقوق الناس، نتخلص من بعض الذنوب، نتخلص من بعض المعاصي، نرجع بعض الأشياء، الإنسان أدرى بنفسه.

نعم أيها الحبيب الواحد خير شاهدٍ على نفسه، وإن مدحك الناس فأنت أدرى، وإن ذمك الناس فأنت أحرى وأدرى، فلو أن ملك الموت وقف وقال: يا عباد الله! من فيكم جاهز يسلم أمانته لله عز وجل الآن؟ لا والله ما فينا واحد مستعد، لماذا؟ لأننا لا نبادر بالعمل، لأننا نسوف، هذه حقوق مالية إن شاء الله نعطيها صاحبها فيما بعد، مع وجود ما نسدد به المال، وهذه مظلمة ما أنصفنا صاحبنا منها، وهذه خطيئة ما تبنا، وهذا ذنب ما أقلعنا عنه، وتلك مصيبة ما تبنا إلى الله منها، فكنا قد جمعنا أموراً، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه) وأنا أقول: كثيرٌ منا يعمل حسناتٍ كثيرة، ولكن يعمل سيئات أكثر، فلا تغتر بكثرة حسناتك مع كثرة سيئاتك، إن التاجر الذي يكسب في الصباح مليوناً ثم يخسر في المساء مليونين لا يمكن أن يقال: إنه تاجر؛ لأنه خسر أكثر مما ربح، وإن الذي يعمل حسناتٍ ثم يثنيها بسيئاتٍ ترجح بها فحينئذٍ لا يمكن أن يسمى رابحاً أو فالحاً؛ إنما الفالح الذي رجحت حسناته على سيئاته، نحن لا نتوقع ولا نظن أن عبداً من عباد الله يخلو من الذنوب أو المعاصي الصغائر أو الكبائر، كلٌّ بحسب حاله، ولكن المصيبة كل المصيبة، والبلية كل البلية من عبدٍ تتراكم عليه الذنوب والمعاصي ولا يتوب.

إذا كنت جاداً صادقاً في هذا الأمر فتوقع وانتظر أن تلقى الله عز وجل في أي ساعة فتكون مستعداً، ثم إن الله سبحانه وتعالى قد شرع لنا من المبادرة ما ينظف الرصيد من المديونية أولاً بأول.

الواحد منا لا يسلم خطوة زلة كلمة نظرة صغيرة لمم فتجد عنده الأخطاء، لكن الله عز وجل شرع لنا ما يمحو هذه الخطايا أولاً بأول، ومن زلت به القدم فليبادر إلى التوبة، ولا يدع الذنوب حتى تجتمع عليه، أنت إذا جاءتك فاتورة الكهرباء قدرها ثلاثمائة ريال يمكن أن تسددها، لكن إذا تراكمت شهراً بعد شهر حتى صارت آلافاً فإنك تعجز عن أن تسددها، فكذلك بادر بالتوبة ما دامت الذنوب صغيرة، وجاهد نفسك ألا تقع في دين الذنوب مرة أخرى، وإن وقعت ثانية فتب ثانية، وإن زللت ثالثة فتب ثالثة، وإن أخطأت رابعة فارجع رابعة، وليس بينك وبين التوبة أحد، بل إن التوبة لا تحتاج إلى واسطة، والمهم المبادرة (وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلقٍ حسن).

جاهد في محو كل ما يكدر ويسود ويلوث صفحة أعمالك، وخالق الناس بخلقٍ حسن، هذه معاملة مع الناس، والخلق الحسن من أثقل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة كما أخبر صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أثقل شيءٍ يوضع في ميزان العبد يوم القيامة، فقال: (تقوى الله وحسن الخلق) الشاهد أن الواحد منا مأمور بالمبادرة، وقد شرع الله لنا المبادرة بأعمالٍ لا تبقي على الواحد بإذن الله سيئة إذا هو اجتهد.