للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كيفية اكتساب الحزم]

أيها الأحبة يظن البعض أن الحزم كبسولة تباع في الصيدلية، وبعضهم يظن أن الحزم سلعة تباع في السوبر ماركت، أو في المحلات التجارية، لا.

الحزم ليس شراباً يشرب، وليس طعاماً يؤكل، وليس الخلطة السرية (كنتاكي) أو غيرها تُجعل حتى تأكلها، لا.

الحزم مجاهدة للنفس: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:٦٩] الحزم أن تجاهد نفسك، فإن لم تكن حازماً فلا تنتظر أحداً يقول لك: افتح فمك نقطر فيه الحزم، أو أعطنا ذراعك نعطيك إبرة اسمها (فاليوم الحزم) ولا (وريد الحزم) لا.

الحزم مسألة تحتاج إلى مجاهدة، والمجاهدة تبدأ من أول لحظة تعرف أنك مقصر، وأنك متهاون، ثم تبدأ تنطلق في معاملة نفسك معاملة جيدة.

إذاً: لا ننتظر أن تقدم لنا السعادة، أو أن يقدم لنا المجد، أو أن تقدم لنا القمم، أو أن يقدم لنا النصر في أطباق ذهبية وملاعق فضية، هذا لن يأتي أبداً، ولن نبلغ المجد حتى نلعق الصبر:

لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

فلابد أن تجاهد نفسك وربما تذوق شيئاً من مرارة المكابدة والمجاهدة حتى تصل إلى مقصودك، المودودي رحمه الله، المفكر الإسلامي المعروف، رئيس الجماعة الإسلامية في باكستان، وكان رئيساً لها في الهند قبل انفصالها، يقول رحمه الله تعالى: إن الحضارة الغربية أنتجت من وسائل الرقي والتمدن الشيء الكثير، لكنها لم تنتج شيئاً يصنع الإرادة في الإنسان، إن الحضارة الغربية أنتجت كثيراً مما يحقق الرفاهية والتمدن للإنسان لكنها لم تنتج شيئاً يوجد الإرادة.

وخذ على ذلك مثالاً: انظر إلى شاب يريد أن يحفظ القرآن وليس عنده إلا مصحف يمكن أن يكون نسخة باكستانية، لكن توجد عنده إرادة الحفظ، فتجده يقلب النظر في هذا المصحف، وتجده أول ما يؤذن يدخل المسجد ويراجع ويقرأ، ويجلس بعد الصلاة يراجع، وقبل النوم يراجع، وبعد النوم يراجع، وتجده مهتماً بالقراءة إلى أن تمر ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر فتجده قد حفظ القرآن كاملاً، لكن تعال إلى إنسان مدلع، تجده يأتي بمعمل صوتيات يضعه في البيت، ويأتي بالقرآن المرتل بصوت المنشاوي وعلي جابر، والسديس، والعبيكان، والمحيسني، والخامس والعاشر، ويأتي بأشرطة فيها صدى، ومختلف الآلات لكنه كسول، ذاك ليس عنده إلا نسخة من المصحف بالطبعة الباكستانية، حفظ المصحف في أربعة أشهر لكن مع الإرادة، وهذا مع وجود معمل اللغة عنده، مع وجود الصوتيات والمؤثرات والنسخ المختلفة، وكثير من نسخ القرآن المتعددة، تجد عنده مصحفاً في جيبه ومصحفاً في سيارته، ومع ذلك ما حفظ آية ولا حديثاً.

القضية ليست قضية أن الإنسان يكدس أشياء، القضية قضية إرادة، إذا وجدت عندك الإرادة فإنك ستفعل شيئاً كبيراً، ولذلك الإنسان قنبلة، لو توجه إلى أمر فهو خطير جداً جداً جداً، ولكن هذه القنبلة قد تكون أضعف من النملة؛ لأن النملة جادة، قد يكون أهون من القملة إذا لم يعتن بنفسه ولم يعمل شيئاً يتدارك هذه النفس من الوقوع في الانحراف.

إذاً الحزم مطلوب في مواجهة كل أمر خيراً كان أم شراً، فإن كنت تريد خيراً فاحزم أمرك، وأن كنت تريد أن تدفع شراً فلا بد أن تواجهه بحزم.

خذ مثالاً على ذلك: في استخدام الحزم في مواجهة الشر الوافد على المجتمع؛ المخدرات، بما لا يدع مجالاً للشك أن المافيا والألوية الحمراء وكثيراً من العصابات وتجار المخدرات العالميين قد أصدروا كثيراً من القرارات والاتفاقيات على محاربة الجزيرة ودول الخليج بالمخدرات، كيف نحارب فعلهم هذا؟ نقول: قبحهم الله لعنهم الله، قاتلهم الله يريدون أن يخربونا يريدون أن يفسدونا؟! هذه مسألة (أوسعتهم شتماً وساروا بالإبل) لكن إذا كنا جادين في محاربة المخدرات، كل مروج يقتل كما صدر قرار هيئة كبار العلماء، ومجلس القضاء الأعلى أن المروج يقتل، لا تظل تقول: هذه المرة الأولى أم الخامسة، ما دام ثبت أنه مروج خلِّ رأسه يتدحرج في ستين داهية، نسأل الله ألا يبتلينا، وأن يعافي من ابتلي منا.

إن هذه القضية قضية تحتاج إلى حزم.

القضية الثانية: آخر عنده مخدرات، لا تقل: هذه والله حبتان أو حبيبات، الحبتان والثلاث تأتي أمامها بنقطتين، ومن الطرائف التي تروى: أن إنساناً أتوا به ليحاكموه، فسأله القاضي: ماذا سرقت؟ قال: سرقت حبلاً، وهل ستقطع يدي لأنني سرقت حبلاً؟ قال: نعم.

لأن في طرف الحبل عنزاً، فالمسألة لا تريد تساهلاً، حبتان ثلاث وبعدها تنتهي القضية، وإذا سجنته فليس عندك مشروع تسمين عجول، فبعض المساجين تقول له: اخرج من السجن، يقول: أبداً عَلَيَّ الطلاق لن أخرج، هذه فرصة لا تفوت، أفوت ثلاثة أصناف من الطعام السبت دجاج، والإثنين سمك، والأربعاء لحم، والله لا أخرج من السجن لو تموتوا، من يجد هذا؟!! لكن إذا سجنت مثل هذا فاجعله يبني جداراً، ويحفر بلاعة، ويليس، اجعله ينجر ويصلح، ويلحم ويشتغل وينقل، لكي يصبح من دخل السجن إنما يدخله تأديباً، ويمسه شيء من العذاب، ليس تعذيباً كراهية أو حقداً، وإنما هو من أجل تربيته لينتفع، فهذه المسألة تحتاج إلى حزم.

كذلك عندما نكون حازمين أيضاً في معالجة المخدرات: أن كل من يخبرنا ويتابع إخباريته بالمشاركة، والجد والمثابرة، حتى يقبض على مروج، أو إنسان متعاطٍ: خذ هذه المكافأة الكبيرة كما يحصل الآن، وزيادة على ذلك حينما نكون جادين أيضاً في مكافحة المخدرات: إذا كان أفلام الكرتون تستهلك من التلفاز ساعة وربع يومياً نريد أن نجعل ربع ساعة في التحذير من المخدرات بمختلف الوسائل، تارة يحذر من المخدرات في دعاية، وتارة يحذر من المخدرات في قصة، وتارة يحذر من المخدرات في قصيدة، وتارة يحذر من المخدرات في كاريكاتير، وتارة يحذر من المخدرات في أنشودة، وبغير ذلك من الوسائل، تُستخدم كل الوسائل التي يمكن أن تجعلها قناة لتوصيل الفكرة من أجل محاربة هذا الشر.

وحينئذ ستجد النتيجة في أن الأمة حينما تتولى هذا الأمر بحزم وعزم، والله إن هذا سوف يقضي بإذن الله على شر وأخطار المخدرات، فالحزم مطلوب في تحصيل خير أو في دفع شر.

كذلك -أيها الأحبة! - الحزم مطلوب أيضاً ليس في معالجة الأمور انتهاءً، بل الحزم مطلوب في تكوين الأمور ابتداءً، فأنت حينما تريد أن تنشىء مؤسسة راقية الأداء، عالية المواصفات والمقاييس في إنتاجها وغيره، لا بد أن يوجد حزمك في اختيار النوعيات التي تحقق لك ما تريد، بمعنى: إذا كنت أريد أن أفتح أو أؤسس شركة متخصصة في بناء قصور، فلا أذهب وآتي بأناس يتعلمون بناء طين أو بناء أخشاب، بل لا بد أن آتي بعمالة راقية جداً، لأني أريد أن أنتج شيئاً راقياً، فلابد أن أجعل هذا الأمر محل الاعتبار في التأسيس.

خذ مثالاً على ذلك حتى لا نكون بعيدين عن المجتمع ومشاكل المجتمع: قضية هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع أننا ولله الحمد والمنة نفخر على سائر دول الأرض جميعاً أنه لا يوجد دولة في دستورها: الدولة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لكن في دستور دولتنا ولله الحمد نص (بند، قرار، فصل) يقول: الدولة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وهذا بحد ذاته خير عظيم، وكل ما يُنتظر من الخير أو نرجوه أن يكون قادماً وقريباً، وما هو موجود من الخير نسأل الله أن يبارك فيه ويزيد.

لكن مثال على ذلك: حينما أريد أن أكون حازماً في هذا الأمر، أو حينما أريد أن أقدم نتائج راقية وعالية في هذا المجال فينبغي أن أجعل الذين يمارسون الحسبة ويتعاملون مع الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس من هب ودب، إنسان ما لقي وظيفة أدخله في الهيئة!! أنا معاذ الله أن أتهم شاباً من شباب الهيئة، أستغفر الله، بل أحبهم وأذب عن أعراضهم وأدعو لهم بظهر الغيب، لكن أقول كمثال لصورة الحزم في هذه القضية حينما أريد أن أرتفع بمستوى الهيئات إلى أمر راق، أقول: لا ينزل الميدان إلا من كان معه شهادة ثانوية من المعهد العلمي الشرعي، وقد درس دورة متخصصة في الحسبة، وفي الإنكار بالحكمة وغير ذلك، وأجعل الذين يخاطبون الناس في الميدان من الجامعيين، أجعل الوظائف الممتازة؛ وظائف المرتبة السادسة، ووظائف المرتبة السابعة والمرتبة الثامنة للميدانيين، فلا أجعل مركز الهيئة الذي ليس فيه إلا وظيفة واحدة في السابعة والثامنة ثم بعد ذلك أطالب من الذين على بند الساعات وبند الأجور، أو البند الناقص والبند الزائد هم الذين في الساحة، لا، ولست أيضاً أقول: إن القضية تُقَيَّمُ بالشهادات، فإنه يوجد أناس قد درسوا العلم الشرعي على بعض المشايخ عندهم من الحزم، والعلم والحكمة، والقدرة والإدارة ما يفوقون فيه حملة الماجستير والدكتوراه، لكن المهم إذا أردت أن أعطي من جهاز عطاءً نافعاً، وأن أجد منه نتيجة مثمرة، فلا بد أن أقدم عينات على المستوى اللائق.

لو أردت أن تفتح مركزاً لجراحة القلب المفتوح أظنك لن تأخذ خريجي المعهد الصحي الثانوي، لا.

لابد أن تختار الذي يكون قد اجتاز الزمالة البريطانية للجراحين، وإلا لن تقبله في هذه القضية، فكذلك حينما أريد أن أعطي نتائج جيدة وقوية وممتازة لعمل الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في أي صعيد ومجال، لا بد أن أوجد الكوادر الممتازة الراقية ذات الشهادات العليا والكفاءات الممتازة، هذا إذاً من صور الحزم في تكوين الأمور ابتداءً بإذن الله جل وعلا، وعلى أية حال كل أمر بدايته تحدده و (من كانت له بداية محرقة كانت له نهاية مشرقة) والشاعر يقول:

وكل امرئ والله بالناس عالم له عادة قامت عليها شمائلهْ

تعودها فيما مضى من شبابه كذلك يدعو كل أمر أوائلُهْ

فالمسألة مرتبطة بالبدايات.