للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[لا رفعة إلا بتضحية]

هكذا كان شأن الصحابة رضوان الله عليهم، فالله جل وعلا يمنح أمة الإسلام نصراً مؤزراً، ومنزلة عالية، ومكانة رفيعة، وهيمنة وسيادة على الأمم، وهذه لا تُنال بالخطب ولا بالتصريحات أو بالمقالات أو بكلام المجالس، إنما تنال بمشانق تُنصب، وبدماء تراق، وبأشلاء تبتر، وبمصائب عظيمة، ولو قدر لأمة أن تنال مجداً من دون دماء، لكان أول من يناله النبي صلى الله عليه وسلم، ألم تدخل حلقتان من حلق المغفر في وجهه؟! ألم يُشج وجهه؟! ألم تُكسر ثنيته وركبته؟! ألم يناله من الأذى ما ناله؟! ألم يجعل السم في طعامه؟! ألم يُجعل سلى الجزور على ظهره؟! ألم يُوضع الشوك في طريقه؟! ألم يُقتل رجاله وأبناؤه وإخوانه وصحابته؟! ألم يُبتلى في الله أبناؤه ودعاته؟! بلى والله.

لو أن النصر والسيادة والعز والتمكين يُنال بالتوقيع وبالوثائق وبالتصريحات لكان أول من يناله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لا حاجة أن تُراق دماء الصفوة من الثلة من الصف الأول من خير القرون: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) لو كان النصر والتمكين يكون بالهدوء والدعة والراحة والنوم والطمأنينة لكان أولى الناس به النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن سنة الله تمضي: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:٤٣].

أيها الأحبة! لقد قدّم النبي صلى الله عليه وسلم تضحيات عظيمة، وذلك بتثبيت الله له: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء:٧٤] لو كان النصر يُنال بالدعة والراحة، أو لو أن نصراً يجيء من دون قطرة دم تُراق، أو يد تُبتر، أو قدم تُشل، أو رُوح تُزهق، أو طعنة في بدن، لكان أولى من ينال هذا آمناً مطمئناً نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكن ما بناه صلى الله عليه وسلم من دولة الإسلام كان ثمرته ووقوده وثمنه الدماء والأشلاء.

فلا خلافة إلا بالجهاد، ولا جهاد إلا بالدماء والأشلاء، لا نصر إلا بالدين، ولا دين يُسيطر ويُهيمن إلا بالجهاد، ولا جهاد إلا بالتضحيات: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:١٠٤] لسنا سواء قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار، الله مولنا ولا مولى لهم، هذا الكلام لأعداء الدين وللكافرين.

معاشر الأحبة: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:١٤٠].

أيها الأحبة في الله! والله إن الفجيعة عظيمة، وإن المصاب جلل، وإن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا جميل لمحزونون، ولكن هذا يومك الذي كتب الله لك، أكرمك الله به بدلاً من أن تموت على فراشك، أكرمك الله أن تموت ميتة الشهداء، نسأل الله ألا يحرمنا وإياك هذا الأجر.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.