للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العقل مناط التكليف]

إذاً: العقل مناط التكليف، فلا تظنن أن الإنسان يكلف أو يشرف بطول جسمه، أو بلون بشرته، أو بنوع شهادته، إنما يكلف بعقله، فإذا وجد العقل حينئذٍ يوجد التكليف والخطاب الشرعي والحلال والحرام، والأمر والنهي، والذي يجوز والذي لا يجوز، وقبل أسابيع بسيطة وأيام معدودة كنا في زيارة لإخوانكم الشباب في معهد الأمل للصم والبكم، مجموعة شباب في معهد الأمل للصم والبكم، حقيقة أحسن شيء في ذلك المجتمع أنه لا يوجد فيه ضجة، ذاك المجتمع ليس فيه ضجة إطلاقاً، نعم هم في معركة كلامية، هذا يتكلم وهذا يعطيك حركات معينة، وعندهم إشارات معينة هي لغة التعامل، فقال لي أحد الأصدقاء جزاه الله خيراً وهو عبد الرحمن الفهيد، وهذا الشاب مثلي مثلكم يتكلم ويسمع وينطق ولكنه يفهم لغة الصم والبكم أكثر من الصم أنفسهم، يفهم لغة الصم والبكم أكثر من الصم والبكم أنفسهم لأن له ستة إخوة من الصم والبكم هم إن شاء الله من المهتدين؛ فتعامله معهم أورثه تعلماً للغتهم، والعجيب أن لهم دقائق لا تتوقعها، والصم هؤلاء لهم حركات بعيدة، ولهم دقائق في الإشارات، أذكر أن واحداً منهم دعاني إلى حفل زواج، فيقول لي: أنت، فسألت الرجل: ما معناه؟ قال: هذه باللغة العامية، حتى الحركات نوعان، حركات عامية، مثلما نتحدث بالكلام العامي، وحركات فصيحة مثلما نتكلم باللغة الفصحى.

قال: هذه باللغة العامية عند الصم، يعني: زواج، أي: أدعوك أنك تحضر الزواج، قلت: إذاً: ما هي اللغة الفصحى عندهم؟ قال: اللغة الفصحى عندهم (إشارات).

ومن الدعابة التي حصلت ونحن في الزواج.

أنني لما حضرت الزواج قابلت أحد الشباب منهم، والحفل لا يوجد فيه أحد يسمع، لكن عندهم سواليف وهذا يتكلم مع هذا، وهذا يتكلم مع مجموعة إلى آخره، فلقيت واحداً منهم أعرفه فقلت له: أنت متى الزواج؟ فقال الذي معي للأبكم بإشارة كذا تحت سيارة، وهي تعني: الزواج، فالشاهد الذي أريد أن أصل إليه أن هؤلاء الصم والبكم بمنّ الله وفضله، فيهم استقامة وصحوة وفيهم غيرة على الدين، ويعتمرون سوياً، ويحجون سوياً، فكان الحديث الذي بيني وبينهم، قلت يا شباب: لا تتوقعون دائماً أن يأتي الشيخ علي العثمان وإلا فلان الفلاني، وإلا الشيخ صالح الحمودي أو أحد المشايخ دائماً يلقي عليكم محاضرة.

بل نريد أن يأتي اليوم الذي يكون واحد منك يقف على منصة المتحدث ومنصة الكلام وهو يلقي محاضرة بالإشارات ويترجمها عبد الرحمن لنا بالكلام؛ لأن الكلام هو نتيجة فكر، الأفكار التي تدور في رأسك تحولها إلى كلمات وتخاطب بها الشخص الذي أمامك، فكذلك نحن نتكلم ونسمع وعندنا أفكار، كذلك الصم والبكم عندهم أفكار وعندهم عقول.

فيا أيها الصم! يا أيها البكم من الشباب: تعالوا وأعطونا ما يدور في رءوسكم من أفكار، حولوها باللغة الدارجة عندكم إلى إشارات يترجمها إلينا المترجم بالكلمات، ولا تظنوا لأنكم صم وبكم لا يمكن أن تخاطبوا بالصلاة والصيام والحج والجهاد والعبادة وعمل الخير، لا.

بل منهم من ذهب وجاهد في سبيل الله، ومنهم من هو نشيط في الدعوة الله سبحانه وتعالى في صفوف إخوانه الصم، تعرفون كيف يطبقون أساليب الدعوة وينشطون إلى الله سبحانه تعالى؟ يأتون إلى محاضرة مسجلة في شريط كاسيت ويسلطون الكاميرا على المتكلم، فجزى الله خيراً الذي يقوم بهذه العملية ومنهم: الأخ عبد الرحمن، يسمع المحاضرة للشيخ الحماد وسم ما شئت من المشايخ والدعاة، والشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين، وغيرهم، فيسمع الكلمات ويحول كلمات المشايخ إلى إشارات، والكاميرا تلتقط صورته، ثم يحول هذا الشريط بالكامل من كلمات إلى إشارات مسجلة على شريط فيديو، والآن ولله الحمد والمنّة، وزعوا آلاف الأشرطة على الصم والبكم في الكويت، وقطر، والبحرين، والإمارات، وهذه العاهة تذكرنا وإياكم بنعمة الله علينا في السمع والبصر.

أيها الأحبة: الشاهد الذي أريد أن أقوله أن النقطة الجزئية التي تجعلنا نخاطبكم وتجعلكم تخاطبوننا ونتخاطب جميعاً هي قضية العقل، فمع وجود العقل سوف نتحدث معك، ونناقشك، ونقنعك أو تقنعنا، وسوف نتحاور معك، ويكون بيننا وبينكم الجدال الطويل حتى يمن الله علينا وعليك بالهداية، أما إذا لم يوجد العقل فكلكم يعرف الحديث: (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يعقل، والنائم حتى يفيق، والصغير حتى يبلغ).

أيها الأحبة: نحن نتخاطب مع العقول وهذه العقول من يحترم عقله يحترم الخطاب ويحترم الكلام، ويتفاعل، والذي لا يحترم عقله، هو الذي يقول: أنا لا أفهم ما تقول وليس لدي استعاد أن أفهم ما تقول، ولا أريد أن أفهم ما تتكلم به.

أيها الأحبة: الحياة بدون غاية عبث، وقد تكلمنا عن الغاية آنفاً، والذي يعيش حياة بلا غاية فوجوده كوجود البهائم، حتى وإن كان له قلب فهو قلب لا يفقه به، حتى وإن كان له بصر فبصرٌ لا يبصر به، حتى وإن كان له سمع فسمع لا يسمع به: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:١٧٩].

إنهم يرون ولكن لا يرون الحقيقة، إنهم يسمعون ولكن لا يسمعون الحق، إنهم يعقلون ولكن لا يعقلون الإيمان والهدى؛ ولذلك قال الله عز وجل عنهم: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:١٧٩] انظر كيف يكون الإنسان كالبهيمة إذا استخدم حواسه فيما لا يليق، وجعل القلب في تدبر أمور لا تليق، وجعل اللسان فيما لا يليق، وقديماً قلنا في محاضرة (حاول وأنت الحكم) للذي سمعها منكم أو حضرها: أن الناس يسمون الذي يستخدم الشيء في غير ما وضع له مجنون، ولو أن واحداً منكم في المعهد قال له المدرس: فك الماكينة هذه وغير الزيت، فأتى بالكأس ووضعه تحت الماكينة؛ ليغير فقال له الأستاذ: تغير الزيت بالكأس يا طبل؟ الكأس للماء وليس لتغيير الزيت، فربما إذا تكررت الحركات التي تستخدم فيها شيئاً لغير ما وضع له، تقول هذا مجنون، أو يأتي واحد ماسك الملعقة يقول: باسم الله، اللهم بارك فيما رزقتنا وقنا عذاب النار.

وأراد أن يضع الطعام في أنفه أو أذنه، نقول هذا مجنون؛ لأنه يستخدم الجوارح في غير ما خلقت لها، الأنف للشم -واحد من المجانين قال له المدرس لماذا الأذن؟ قال: نعلق عليها النظارات- والأذن للسمع، واللسان للتسبيح والنطق بذكر الله عز وجل، لا للنطق بالأغاني والمحرمات، إن الذي يستخدم هذه الجوارح فيما خلقها الله له، فإنه من أعقل العقلاء، لكن إذا استخدمها في غير ما خلقت له يقال عنه: مجنون.

عندما ترى واحداً يستخدم ما خلق الله عز وجل لغير ما خلق له، فتقول: هذا مجنون، فما بالك بمن استخدم الجوارح كلها، أي: الذي يستخدم جارحة واحدة في غير ما خلق الله، في غير الحكمة التي خلقت يقال عنه: مجنون، ولذلك الذي يقعد يشم الهروين ويشم الكوكايين ويشم الشمة، بماذا نحكم عليه؟ فالذي يستخدم جارحة في غير ما خلقت لها يعد مجنوناً، فما بالك بمن استخدم عقله وسمعه، وبصره ولسانه، ويده ورجله وفرجه، وكل شيء في غير ما شرع الله عز وجل، وفي غير ما خلق له، ذاك هو الجنون الكامل، فحياتنا لابد أن تكون حياة العقلاء، ولن نكون عقلاء إلا إذا تصرفنا فيها بمحض ما يتفق مع الحكمة التي خلقها الله، أو التي خلقنا الله لها.

إن الله خلقنا لحكمة عظيمة فما هي الحكمة التي من أجلها خلقنا؟ عبادته سبحانه وتعالى وهذا سؤال تفهمه جدتي وجدتك، ويفهمه الشايب الكبير الذي لم يدرس، ويفهمه أخوك الصغير الذي لم يدخل الابتدائي بعد، وتفهمونه أنتم والذي في الجامعة.