للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اغتنام الشباب قبل الهرم]

أيها الأحبة: لو نظرنا إلى شأن الدنيا لوجدناها برقٌ خلب، سحائب طيفٍ عن قريبٍ تقشع، ويقول صلى الله عليه وسلم: (اغتنم شبابك قبل هرمك) فالشباب أيضاً سريع التحول وسريع الزوال:

شيئان ينقشعان أول وهلة شرخ الشباب وخلة الأشرار

إن غنيمة الشباب فيها مصلحةٌ عظيمة، ذاك لأن في الشباب مقدرةٌ على فعل الطاعات، ومجاهدة النفس عليها، نعم في الشباب قدرةٌ، من الشباب من يقدر على أن يتهجد واقفاً على قدميه، أما الكهل الكبير المسن فربما تهجد قاعداً لا يستطيع الوقوف، الشاب ربما صام ثلاثة أيامٍ من كل شهر، وصام الإثنين والخميس وصام فرضه وصام نوافله، أما الكبير فربما كان عاجزاً عن أن يقوم بهذا، في الشباب طاقات وقدرات لا يجدها كبار السن، في الشباب قدرةٌ على الإقلاع عن الذنوب، يوم أن تخاطب شاباً مدخناً أو سامعاً للملاهي والأغاني، أو شاباً قد وقع في شيءٍ من المعاصي والمسكرات، فإن عنده من القوة والطاقة والحيوية والمقدرة ما يستطيع معه أن يصارع شهواته، فينتصر عليها في شبابه، أما إذا شاب على المعصية فإنا لله وإنا إليه راجعون! والشيء بالشيء يذكر.

حدثني أحد طلابي في الكلية ووقفت في نفسي على نفس صاحب المحل، وقال عن ذلك الرجل: إنه كان يبيع الأسطوانات من زمنٍ قديم ثم يبيع الأشرطة (المكرات) ثم أخذ يبيع ألوان الأشرطة الكافرد والكاسيت وغيرها، قال فقلنا له: يا عم! كم عمرك؟ قال: فوق الستين أو عند السبعين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أعمار أمتي بين الستين إلى السبعين وقليلٌ منهم من يجاوز ذلك) يقول: قلنا يا عم: أنت في هذا السن وتبيع أسطوانات الأغاني، وتبيع الأشرطة، وتبيع الملاهي في هذا الدكان بجوار أهل الشيشة، وأهل هذه الأمور المحرمة النجسة والروائح النتنة؟ قال: يا (وليدي) أنا من عهد محمد بن إبراهيم إلى يومك هذا وأنا على هذه الحال، إنا لله وإنا إليه راجعون! أهذه مفخرة أن يستمر الواحد على معصية من حياة الشيخ محمد بن إبراهيم إلى يومنا هذا! وأقبح من هذا أن قال: إن الشيخ سبق أن نصحني ولكني ما تركت، يعني في معنى: أنني عاجزٌ عن أن أقلع أو أغير، والله ما عجز ولكن على الران القلوب: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:١٤] لأن من نشأ في معصية، وترعرع في معصية، وشب في معصية، وشاب في معصية، وبات شيخاً على معصية، فإن الشيخوخة في هذه الحال تعني: إدماناً وبقاءً على المعاصي وربما رأى الإنسان ألواناً من المواعظ والمذكرات والمغيرات ومع ذلك لا يتغير إلا يوم أن يأتيه الموت، فإذا أدركه الموت قال: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ} [يونس:٩٠ - ٩١] الآن تتوب لما وصل الموت فحينئذ: {لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام:١٥٨] إن الواحد ينبغي له أن يغتنم حياته -أيها الأحبة- وأن يستغلها في طاعة الله سبحانه وتعالى.

أنا أسألكم سؤالاً: نحن خلقنا لأجل عبادة الله جل وعلا، وأما نكاحنا زواجنا بيعنا شراؤنا سكنانا دوابنا سياراتنا هذه حاجات على الطريق، أما الغاية هي أن نعبد الله وأن نرضي الله حتى ندخل جنة الله، فتخيلوا معي الآن هذا المثال: رجلٌ سافر إلى مكة أو يريد السفر إلى مكة، وفي الطريق مر على محطةٍ وجد فيها دكاناً أو حانوتاً يبيع ألوان الخبز والمرطبات والمشروبات والمكسرات، ماذا تقولون لرجلٍ وقف عند هذا الحانوت أو هذا الدكان وقال: هنا وصلنا مكة، لا.

الحانوت الذي على الطريق تأخذ منه حاجتك وليس غايتك أن تأخذ الشراب أو الطعام أو الملبس، غايتك أن تتجه إلى مكة أما وقوفك عند الحانوت لأجل أن تغير ثوباً أو تغير قطعةً أو تشتري دابةً أو تحصل حاجة، فحالنا حال الذي أراد السفر إلى مكة فظن أنه وصل إلى مكة بمجرد وقوفه عند محطةٍ من المحطات، أي: جعل ما يتزود به إلى الطريق غاية ونسي الغاية العظمى، فنحن غايتنا الآخرة خلقنا لعبادة الله، لكن كثيراً منا وقف عند حوانيت الدنيا، كثيرٌ منا جعل غايته عند زوجةٍ نالها، غايته عند بيتٍ سكنه، غايته عند سيارةٍ ملكها، غايته عند أرضٍ يبنيها، غايته عند أموالٍ يستثمرها، هذا المال والزوجة والسيارة والدابة هي مثل الكيك والكعك والمرطبات والمكسرات التي تجدها على جنبات الطريق؛ لكن لا يعقل أن واحداً يرضى بهذه المكسرات ويقول: هذه الغاية، بل ربما أكل منها شيئاً في الطريق ثم رماها من نافذة سيارته وحث السير بخطىً جادة حتى بلغ مكة أو بلغ غايته.

إذا علمنا هذا -أيها الأحبة- فلا نخلط بين الغاية وبين المتاع الذي في الطريق قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:٧٧] لا بأس أن تقف عند أي حانوتٍ وتأخذ منه حاجتك من لباسٍ أو طعامٍ أو شراب، لكن الغاية أن تبتغي بما أوتيته من سمع أو بصرٍ أو مالٍ أو جاهٍ أو قوةٍ أو وجاهةٍ أو قدرةٍ أن تبتغي بها وجه الله سبحانه وتعالى، ففي الشباب قدرةٌ على الإقلاع عن الذنوب، وفي الشباب قدرةٌ على طلب العلم، وفي الشباب قدرةٌ على مجاهدة النفس:

ومن لم يذق ذل التعلم ساعةً تجرع ذل الجهل طول حياته

ومن فاته التعليم وقت شبابه فكبر عليه أربعاً لوفاته

أيها الأحبة في الله: الحياة قصيرة: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:٥٥].

{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:١١٢ - ١١٥] والله عشتم سنين!! عشتم منكم من بلغ العشرين سنة، ومنكم من بلغ الثلاثين، ومنكم من بلغ الأربعين، ومنكم من بلغ الخمسين وجاوزها، والسبعين وتعداها، ماذا فعلتم بها؟ ظننتم أنكم لن تحاسبوا: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:١١٥ - ١١٦] وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} [القيامة:٣٦].

يا أخوان: لو أن رجلاً استقدم مائة عامل ثم تركهم هكذا لقلنا: هذا مجنون يستقدم مائة عامل ويتركهم هملاً في الأرض!!، أو استورد مائة جهاز ثم يقفل عليها في الخزينة ويتركها!! فما بالك بأحكم الحاكمين أتظنونه خلقنا عبثاً؟! هل خلقت هذه الأبدان لنلبس عليها أفخر المشالح والثياب وألوانها وأنواعها، أم خلقت الأعين لنقلبها في أفلام الفيديو والمجلات الخليعة؟! أم خلقت الآذان لنسمع بها إلى الأغاني والأهازيج والموسيقى والطرب؟! لا والله ما خلقت لهذا وإنما خلقت لطاعة الله.

إذاً خلق الإنسان كله لغاية وهي عبادة الله، لا يعقل أن يكون جزء منه لغير عبادة الله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] كلك يا بن آدم من أخمص قدمك إلى مفرق رأسك مخلوق لعبادة الله، أتظن أن الجسم كله خلق لعبادة الله والعين خلقت لكي تنظر إلى فلانةٍ وعلانة؟: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:٣٠ - ٣١].

أيها الأحبة في الله: الواقع يشهد أننا ضيعنا كثيراً من الفرص وفاتتنا كثيرٌ من الغنائم، فيا ترى هل نعود لاستدراك ما فات؟ هل نستعد قبل الممات؟ هل نجتمع ونعقد العزم على تكفير السيئات وتجاوز الزلات والخطيئات؟