أيها الأحبة: طالما حضرنا مجالس، وسمعنا أقاويل، وعلمنا أموراً مدارها وديدنها وحديث أصحابها: إن هؤلاء الذين يظهرون الدين، إن هؤلاء الذين يتنسكون في ظاهر أمرهم يريدون أموراً، ويخططون لأمور، ويرتبون أشياء، ووالله ما هذه غاية الدعاة فضلاً عن أن يعدوا لها، أو يخططوا لها، أو يجعلوها غايةً في ذاتها.
قال ذلك السلطان للإمام ابن تيمية لما دخل عليه: إنك تريد ما عندي، فغضب ابن تيمية ورفع صوته على ذلك السلطان، وقال: أنا أريد مالك أو أريد جاهك أو أريد حبوتك؟ والله إن ما عندك لا يساوي خيطاً من هذا القميص.
ولا غرابة فإن شيخ الإسلام وغيره من الأئمة والدعاة كانوا يطلبون الجنة؛ الجنة التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، الجنة التي هي من الآخرة، ليست تنسب إلى الدنيا بشيء، وكما قال صلى الله عليه وسلم:(ما مثل الحياة الدنيا بالنسبة للآخرة إلا كما يُدخل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بما يرجع) ومن الذي يرغب بقطرة عن بحارٍ متلاطمة من الخير.
نقولها وبكل صراحة: إن الجنة هي غاية كل داعية، وهي غاية كل متبوع تابع على منهاج أهل السنة والجماعة.
أما الدنيا، وأما الجاه، والمناصب، والرياسات، والأموال، فاللهم لا تجعلها في قلوبنا، ولا تجعلها أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا.
وإني والله أعجب من أولئك الذين يقبلون مثل هذه الأقاويل ويصدقون بمثل تلك الأكاذيب، ويقول قائلهم: عند الدعاة كذا وكذا، ويريد الدعاة كذا وكذا، ويطمح الدعاة إلى كذا وكذا، وهل رأيت دليلاً عند أحدهم يصدق ما تظنه أو تقوله؟ والله إنه لأمرٌ عجيب، وقلتها ذات مرة في لقاء من اللقاءات السابقة يوم أن كان أهل تلك المنطقة فيهم خوفٌ من كل داعية إلى الله جل وعلا أنه يريد كذا وكذا مما تخافه نفوسهم، وتضطرب منه أفئدتهم، فقلت لبعض الأحباب: يا إخواني! هؤلاء الذين تظنون أنهم يريدون ويدبرون ويطمحون هل فتحت مطبخ واحد منهم فوجدت طائرة دفاعية أو مقاتلة؟ وهل دخلت حظيرة واحدٍ منهم فرأيت طائرةً مضادةً للدبابات؟ وهل دخلت مخزن واحدٍ منهم فرأيت ذخيرةً من الأسلحة؟ والله لو دخلت بيوت الدعاة بيتاً بيتاً؛ ما وجدت عند بعضهم ما يصطاد به الحمامة، ولو تأملت ما عندهم؛ لوجدت عندهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ صحيح البخاري، وصحيح مسلم، والسنن، والمسانيد، والشروح، وكتب العلماء، ذاك سلاحهم، وذاك زادهم، وتلك عدتهم، وذاك طريقهم حتى يبلغوا بذلك وجه الله والدار الآخرة راضين مرضيين، فمن ظن غير ذلك فلينظر إلى برهان قلبه، وليتأمل بعين بصيرته حتى لا يُحذر نفسه من وهمٍ جعل الأغلال في يديه والقيد في رجليه، فقعد به عن شرف الدعوة والدعاة، لقد عرفنا كثيرين فيهم خيرٌ كثير، وفيهم صلاحٌ كبير، وفيهم استقامة، وفيهم جبنٌ وخوفٌ كثير، وذلة عجيبة، والأمر سوء الظن، وتصديق الأكاذيب واتباع الأقاويل، ولو أن أحدهم سمع شريطاً أهدي إليه، أو قرأ كتاباً بذل له؛ لعرف أن غاية الدعاة وأن ما عندهم هو الجنة، لا يريدون غير الجنة، لا يريدون إلا مرضاة الله جل وعلا، وذاك أمرٌ أي كرامة، وأي عزة، وأي منقبة أن يرضى الله عنك في عباده! والله أيها الأحبة! إن جندياً من الجنود يوم أن يُقال له: إن قائد الكتيبة راضٍ عنك، معجبٌ بك، مؤيدٌ لك؛ تجد ذلك الجندي يكاد يطير فوق الأرض من شدة ما ناله من السعادة والإعجاب والطمأنينة؛ لأن قائد الكتيبة قد رضي عنه، وواحدٌ من الموظفين لو قيل له: إن أمير المنطقة قد رضي عنك، وأعجب بك، وأثنى عليك في المجالس خيراً، لجعل يطلب ترداد وإعادة الكلام، لماذا؟ لأن بشراً قد رضي عنه، فما بالك أن يرضى عنك ملك الملوك، جبار السماوات والأرض، ما بالك يوم أن يرضى عنك الذي خلق الأولين والآخرين، والجن والإنس، الذي الأرض جميعاً قبضته والسماوات مطويات بيمينه، الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرةٍ في الأرض ولا في السماء.
فتلك غاية الدعاة وهي الجنة، وذلك مطلب الدعاة، وهو رضا الله سبحانه وتعالى، مطلبٌ على منهج الأنبياء والرسل، لا على منهج المنحرفين، والضُلال والمبتدعين، الذين قال بعضهم: عبدنا الله خوفاً من عذابه فقط، أو على منهج الضُلال الذين قال قائلهم: عبدنا الله طمعاً في ثوابه فقط، أو على منهج المتصوفة الذين قال قائلهم: والله ما عبدنا الله طمعاً في ثوابه ولا خوفاً من عذابه، وإنما عبدنا الله حباً في ذاته، فذاك أيضاً منهج الضلالة، ومنهج الغواية، أما منهج الصواب والصراط المستقيم في هذه الغاية فهو صراط الأنبياء الذين قال الله جل وعلا عنهم:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً}[الأنبياء:٩٠] يرغبون في الجنة: {وَرَهَباً}[الأنبياء:٩٠] خوفاً من الله ومن عذابه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}[الأنبياء:٩٠].
فالدعوة عبادة، والعبادة ذلة وانقيادٌ وخضوعٌ مع المحبة والتعظيم للمعبود، قال ابن القيم: