للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أهمية المبادرة بالأعمال قبل حلول الفتن]

يقول تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} [المائدة:٤٨] ويقول صلى الله عليه وسلم في بيان شأن آخر بالأمر بالمبادرة: (بادروا بالأعمال فتناً) أي: اعملوا اجتهدوا.

أحسن إذا كان إمكانٌ ومقدرة فلا يدوم على الإحسان إمكان

أنت اليوم مبصر، وغداً لا تدري أكفيف أم بصير، وأنت اليوم تمشي، وغداً لا تدري أراجلٌ أو معوق، وأنت اليوم قادر، وغداً لا تدري أقادرٌ أم ضعيف، أنت اليوم قوي، وغداً لا تدري أقويٌ أم عاجز، وأنت اليوم عزيز، وغداً لا تدري أعزيزٌ أم ذليل، وأنت اليوم قد متعك الله بكل ما آتاك، وأنت لا تدري غداً هل تعيش وأنت محرومٌ مما أوتيت من قبل، أو لا تدري لعل غداً يأتي وأنت في جوف الأرض ولست على ظاهرها.

ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا) رواه الإمام مسلم.

ففي هذا الحديث يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نبادر بالأعمال، فالواحد لا يدري لعل فتناً تحل بواقعه، وفتن الزمان عجيبة

والليالي من الزمان حبالى مثقلاتٍ يلدن كل عجيب

لا تدري أتصبح في فتنة قد لا تمسي فيها مؤمناً، أم تمسي في فتنة قد لا تصبح فيها مؤمناً، يفتن الناس فتناً عظيمة، ولا يقولن أحدٌ: أنا ذلك الحصن المنيع الذي لا يتسور، وأنا تلك الصخرة الصماء التي لا تخترق، وأنا ذلك الجدار الذي لا ينكسر، بل قل: يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك.

إن فتناً حقيرة من أمور الدنيا، تعجب يوم أن ترى الناس يتعصبون لها ويتحزبون ويتدابرون فيها، ويتقاطعون بسببها، وهي أمورٌ تافهة ليس فيها من العجائب أو الغرائب أو المعجزات، ومع ذلك فتن الناس بها أو كثيرٌ منهم أيما فتنة، فما بالك إذا جاءت فتنٌ كقطع الليل المظلم يرقق بعضها بعضا، يصبح الواحد فيها مؤمناً فيمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً فيصبح كافراً.

ما دام الواحد منكم -يا عباد الله- في فسحة من العيش، في مهلة من الأجل، في قوة من العافية وسعة من الرزق في قدرة من الحال ما الذي يردك أو يصدك عن المبادرة؟ أقوامٌ بصر الواحد منهم حديد (ستة على ستة) فيقال له: اتل كتاب الله، تدبر كتاب الله، يقول: فيما بعد، أو إذا كبرنا، إذا إذا إن شاء الله، ثم إذا ضعف البصر واحتاج إلى عدسة غليظة، ثم ما عادت العدسة تنفعه، قال: يا ليتني أبصر لأقرأ في كتاب الله عز وجل، وأين القراءة في كتاب الله عز وجل يوم كان نظرك (ستة على ستة)؟ وآخر كان يسابق الذئاب والثعالب والتراحيل من شدة عدوه وسرعته، وينام عن الصلاة في المساجد، ثم إذا تقدم به السن قليلاً أو أصابه من مقادير الله ما أصابه فأصبح عاجزاً عن المشي على قدميه قال: يا ليت لي قدمان تحملني إلى المسجد لكنت أصلي كل فرضٍ في بيت الله، وأين أنت أيام كانت الأقدام قوية؟ وآخر كانت الدنيا في يده يعبث بها يمنة ويسرة في إسراف وشهوات، وفي أمورٍ كثيرة، ثم تقلبت به الأيام وتغيرت الأمور: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:١٤٠] فقال بعد أن افتقر بعد ذلك الغنى: يا ليتني كنت غنياً فأكفل الدعاة، وأكفل الأيتام، وأسعى على الأرامل والمساكين وأعطي المحتاجين وأين أنت يوم أن كاد الرصيد يئط كما يئط الرحل من حملٍ فوقه، أين أنت عن الإنفاق في سبيل الله عز وجل؟ أين أنت أيام قدرتك المالية؟ لما ضاع المال وذهب واضمحل وزال وولى وانتهى تأتي وتقول في حال الفقر: يا ليت {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:٢٨] {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة:٧٥] إلى قوله عز وجل: {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِه} [التوبة:٧٦].