للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الركون إلى الدنيا سبب للغفلة]

أيها الأحبة! إن هذه الغفلة التي استحكمت ببعض إخواننا وفينا ما فينا من الغفلة -أيضاً- {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف:٥٣] من أسبابها: الركون إلى الدنيا والتعلق بها، إذ الدنيا لها بريق لامع تأسر صاحبها وتشده إليها فيسعى جاهداً في تحصيلها، ويزداد بها تعلقاً حتى يصبح لها عبداً تأمره فيطيع، وتزجره فينزجر، فيهون عليه فعل الحرام بتحصيلها، ويفرط في الواجبات ليستكثر منها، وبذا تستحكم الغفلة، قال يحيى بن معاذ الرازي: الدنيا خمر الشيطان من سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموت نادماً مع الخاسرين.

لذا كان واجباً على كل عاقل أن يجعل من دنياه، أن يجعل من ماله، أن يجعل من قوته، أن يجعل من جاهه، أن يجعل من موقعه، أن يجعل من دنياه أبواباً وسبلاً تعينه على طاعة الله.

فيا أخي الحبيب! هل جعلت من دنياك على سبيل الاستمرار لا على سبيل المرة الواحدة فقط؟ هل جعلت منها في نشر العلم؟ هل جعلت منها في تحفيظ القرآن، وطباعة الكتب، وكفالة الدعاة، وسقيا الماء، وكفالة الأيتام، وكفالة المجاهدين، وإعانة المحتاجين؟ إذا كنت ذا دنيا فاجعل الدنيا مما يعينك على الآخرة، واستخدم الدنيا ولا تخدمها، واستعبدها ولا تكن عبداً لها.

إن أناساً -والله رأيناهم بأعيننا وعرفناهم- أصبحوا عبيداً للدنيا، أذلتهم، كسرت رقابهم، خضعت برءوسهم إلى الأرض، ولو أنهم استخدموها لوجدوا في تسخيرها لطاعة الله عزاً وكرامةً، قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، وتعس عبد الدرهم) رواه البخاري.

فالذي لم يجعل من دنياه وأمواله جسوراً وأبواباً إلى مرضاة الله ونيل ثوابه واتقاء عقابه، فإنه عبد للدنيا تعيس، وعبد للدرهم تعيس، ذليل، خدم الدنيا وما خدمته، وصار عبداً لها وما رفعته وإن ملك ما ملك وسكن ما سكن، وتقلب فيما تقلب.

لقد حذر صلى الله عليه وسلم من الدنيا فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها لينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) رواه الإمام أحمد ومسلم.

وما أكثر الذين غفلوا عن الذكرى ولجَّوا في الغفلة لجوجاً بيّناً، وأمعنوا فيها إمعاناً واضحاً بسبب شهوات النساء وفتنتهن، تجد أحدهم متزوجاً يعاكس هذه ويخادن هذه ويخالل هذه، فلا ينتهي من علاقة إلا وقد توسط في أخرى وبدأ في علاقة أخرى، ولا ينتهي من علاقة إلا وقد تورط في أخرى ووقع في علاقة أخرى ولا حول ولا قوة إلا بالله! وربما يقول: سأقلع فيما بعد: أقلع.

ولكن متى يقلع؟ إذا كانت نهاية كل علاقة هي بداية لعلاقة جديدة، وعلى حد قول الشاعر:

وحلفت ألا أبتديك مودعاً حتى أهيئ موعداً للقائي

بل إن بعضهم من شدة لجاجته في الغفلة واستحكام أمر الغفلة في شأنه في أمر النساء لا يدع امرأة إلا إذا رتب علاقة مع امرأة أخرى، ولذلك لا عجب أن يتقلب وأن يتدحرج وأن يسحب على وجهه في هذه الغفلات.