للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عدم تدبر آيات القرآن الكريم]

الأمر الآخر الذي يحول بيننا وبين الاهتمام والاشتغال بالآخرة: أننا نقرأ آيات الوعد وآيات الوعيد خاصة فلا نتدبر ولا نتذكر، وعجباً لأحوالنا، بل إن من الناس من ربما رأيته ينتقد قائماً متكلماً بعد الفريضة أو في مناسبة أو في اجتماع وليمة أو عرس أو عقيرة أو وكيرة، ينتقد فلاناً يوم أن يتكلم عن الجنة والنار وما حاجتنا بهذه الدنيا لولا رضا الله ثم طلب الجنة والنار؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي سأله كيف تدعو؟ فقال: لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، ولكني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، فقال صلى الله عليه وسلم: (أنا ومعاذ حولها ندندن)؟ بل الله جل وعلا يصف خيرة خلقه وهم أنبياؤه ورسله بقوله عز من قائل: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:٩٠] رغباً في الجنة، ورهباً من النار، إننا قل أن نتذكر الآخرة، ولو مرت بنا أحوال الآخرة، وأهوال القيامة لقل أن نتدبرها أو نتخيل أحوالنا فيها، انظر إلى الذين يتخيلونها تماما، تقول عائشة رضي الله عنها: (يا رسول الله! يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً بهماً الرجال والنساء، وا سوأة النساء! وا فضيحة النساء! فقال صلى الله عليه وسلم: الأمر أعظم من ذلك يا عائشة!) الأمر أعظم من أن يسترق رجل نظرة إلى عورة امرأة، أو أن تخطف امرأة نظرة إلى سوأة رجل، ولكن الأمر أعظم من ذلك.

وإني لا أزال متذكراً مكرراً يوم أن حصل لبعض الحجاج ازدحاماً في نفق المعيصم خرج بعضهم عرياناً، خرج بعض الحجاج عارياً لا إزار عليه ولا رداء، يمشي يريد أن يتنفس ذرة من الهواء بعد تخلصه من الزحام والناس يحلقونه من حوله ويرمون عليه إزاراً يستر سوأته، هذا نفق صغير ضيق في زحام من زحامات الدنيا خرج المزحوم فيه ذاهلاً عن سوأته لم ينتبه لها ولم يغطها، فما بالك بأهوال القيامة ترى رجلاً سوف ينظر إلى عورة امرأة أو امرأة تنظر إلى عورة رجل.

مر الحسن البصري برجل يضحك ويقهقه ويستغرق في الضحك لاهياً غافلاً، فقال الحسن: [يا بن أخي! هل جزت الصراط؟ قال: لا.

قال: هل علمت إلى الجنة تصير أم إلى النار؟ قال: لا.

قال: ففيم الضحك؟] نعم.

إننا لا ننكر صفة خلقها الله فينا، ولا نريد بهذا أن نكون مقطبين لا نبتسم ولا نضحك أبداً فقد ضحك صلى الله عليه وسلم، وربنا عز وجل خلق فينا صفة فكيف ينكرها قال: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:٤٣] الله أضحكنا، الله الذي خلق فينا هذه الصفة بهذه الكيفية والهيئة، ولكن أن يكون الضحك باستغراق وغفلة حال كثير من الناس لا يروي لك إلا ما يضحك، ولا يسمع إلا ما يضحك، ولا يقرأ إلا ما يضحك، ولا يشاهد إلا ما يضحك، فويل ثم ويل لمضحك القوم! قال الحسن البصري: [فضح الموت الدنيا فما أبقى لحي لذة، وما ترك لذي لب فرحاً] حسبنا في هذه الدنيا أننا لا نتلذذ بها إلا حال غفلة، ولو أن الواحد تذكر أحوال الآخرة والفراق لما استطاع أن يتلذذ بطعام ولا شراب، ولا فراش ولا قليل ولا كثير.