بُعْداً...» فلم يصرح جل وعلا بمن غاض الماء، ولا بمن قضى الأمر وسوى السفينة وقال بعدا. كما لم يصرح سبحانه بقائل «يا أَرْضُ...»«وَيا سَماءُ...» في صدر الآية، سلوكا في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية، لأن تلك الأمور العظام لا تصدر إلا من ذي قدرة لا يكتنه، قهار لا يغالب؛ فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره جلت عظمته قائلا:«يا أَرْضُ...» و «يا سَماءُ...»، ولا غائضا ما غاض، ولا قاضيا مثل ذلك الأمر الهائل، أو أن يكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره.
ثم إنه تعالى ختم الكلام بالتعريض، تنبيها لسالكي مسلك أولئك القوم، في تكذيب الرسل عليهم السلام، ظلما لأنفسهم لا غير؛ وإظهارا لمكان السخط ولجهة استحقاقهم إياه، وأن قيامة الطوفان، وتلك الصورة الهائلة، ما كانت إلا لظلمهم، كما يؤذن بذلك الدعاء بالهلاك بعد هلاكهم، والوصف بالظلم مع تعليق الحكم به.
وأما النظر فيها من جهة علم المعاني، وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها، فذلك أنه اختير «يا...» دون سائر أخواتها لكونها أكثر في الاستعمال، وأنها دالة على بعد المنادي الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة، وإبداء شأن العزة والجبروت. وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل، فذلك أنه قدم النداء على الأمر، فقيل:«يا أَرْضُ ابْلَعِي...»«وَيا سَماءُ أَقْلِعِي...» دون أن يقال: ابلعي يا أرض واقلعي يا سماء، جريا على مقتضى اللازم-فيمن كان مأمورا حقيقة-من تقديم التنبيه، ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادي، قصدا بذلك لمعنى الترشيح للاستعارة المكنية في الأرض والسماء، ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء، لكونها الأصل، نظرا إلى كون ابتداء الطوفان منها حيث فار تنورها أولا.
هذا كله نظرا في الآية من جانبي البلاغة، وقد ذكر ابن أبي الإصبع أن فيها عشرين ضربا من البديع مع أنها سبع عشرة لفظة، وذلك: المناسبة التامة في «ابلعي...» و «اقلعي...»، والاستعارة فيها، والطباق بين الأرض والسماء، والمجاز في