وأقام الجيش في الجهة الشرقية، مسندا ظهره إلى سلع، وهو جبل مطل على المدينة، وعدتهم ثلاثة آلاف، وكان لواء المهاجرين مع زيد بن حارثة، ولواء الأنصار مع سعد بن عبادة. أما قريش فنزلت بمجمع الأسيال، وأما غطفان فنزلت جهة أحد. وكان المشركون معجبين بمكيدة الخندق التي لم تكن العرب تعرفها، فصاروا يترامون مع المسلمين بالنبل. ولما طال المطال عليهم، أكره جماعة منهم أفراسهم على اقتحام الخندق، منهم عكرمة بن أبي جهل، وعمر بن ودّ وآخرون، وقد برز علي بن أبي طالب رضي الله عنه لعمرو بن ود فقتله وهرب إخوانه، واستمرت المناوشة والمراماة بالنبل يوما كاملا، حتى فاتت المسلمين صلاة ذلك اليوم، وقضوها بعد، وجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم على الخندق حرّاسا، حتى لا يقتحمه المشركون بالليل، وكان يحرس بنفسه ثلمة فيه مع شدة البرد، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يبشر أصحابه بالنصر والظفر، أما المنافقون فقد أظهروا في هذه الشدة ما تكنّه ضمائرهم، حتى قالوا: {(ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً)} وانسحبوا قائلين: (إن بيوتنا عورة) نخاف أن يغير عليها العدو (وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا). وطال الحصار واشتد البلاء على المسلمين؛ ونقض بنو قريظة العهد، وأعلنوا الحرب على المسلمين، فلما بلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم أرسل مسلمة بن أسلم في مائتين، وزيد بن حارثة في ثلاثمئة، لحراسة المدينة خوفا على النساء والذراري؛ وأرسل الزبير بن العوام يستجلي له الخبر، فلما وصلهم وجدهم حانقين، يظهر على وجوههم الشر؛ ونالوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين أمامه، فرجع وأخبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بذلك، وهنالك اشتد وجل المسلمين، وزلزلوا زلزالا شديدا، لأن العدو جاءهم من فوقهم، ومن أسفل منهم، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وظنوا بالله الظنون، وتكلم المنافقون بما بدا لهم، فأراد عليه الصلاة والسلام أن يرسل لعيينة بن حصن، ويصالحه على ثلث ثمار المدينة، لينسحب بغطفان.
فأبى الأنصار ذلك قائلين: إنهم لم يكونوا ينالون من ثمارها ونحن كفار، أفبعد الإسلام يشاركوننا فيها؟ وإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه، وبينما هم في هذه الحالة من الضيق والشدة جاء نعيم بن مسعود الأشجعي، وهو صديق قريش واليهود، فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، وقومي لا يعلمون بإسلامي، فمرني بأمرك حتى أساعدك،