[شرح حديث (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه)]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب تغميض الميت.
حدثنا عبد الملك بن حبيب أبو مروان حدثنا أبو إسحاق يعني الفزاري عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن قبيص بن ذؤيب عن أم سلمة رضي الله عنهما أنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أبي سلمة رضي الله عنه وقد شق بصره فأغمضه، فصيّح ناس من أهله، فقال: (لا تدعو على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، ثم قال: اللهم! اغفر لـ أبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله رب العالمين! اللهم! افسح له في قبره ونور له فيه).
ثم أورد أبو داود هذه الترجمة: باب تغميض الميت، أي: تغميض عينيه، فإذا خرجت الروح تبعها البصر، فتنفتح العينان؛ لأنها تتبع الروح، فشُرع تغميض العينين؛ لأن ذلك أجمل، وأما بقاؤه مفتوح العينين فإن ذلك منظر يُستقبح.
وهذه الترجمة أول التراجم المتعلقة بالموت وما يحصل بعد الموت، وأما التراجم التي مضت -ومقدارها عشرون ترجمة- فكلها أمور تقع قبل الموت من عيادة، ومرض، وصبر، وتلقين، وغيرها من الأحكام التي تجري قبل الموت، وهذه أول ترجمةٍ تتعلق بما يكون بعد الموت.
ثم أورد أبو داود حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى أبي سلمة لما مات، فوجده قد شق بصرة) أي: أنه انفتح بصره وصار شاخصاً، (فأغمض عينيه) وهذا فيه دليل على أنه يُسن تغميض عيني الميت بعد موته، إذا مات وشق بصره.
قوله: (فصيّح ناس من أهله).
أي: ارتفعت أصوات بعض أهله، فقال: (لا تدعو إلا بخير؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون) أي: أنه ينبغي لهم أن يدعو بكلام حسن جميل، وأن يدعو للميت ولأنفسهم، وألا يدعو على أنفسهم بالويل والثبور والتحسر على موت الميت.
قوله: (فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون) أي: إن قالوا خيراً أمنت الملائكة على ذلك، وإن قالوا شراً أمنت الملائكة على ذلك، إذاً: فلا ينبغي أن يقولوا إلا خيراً؛ حتى تؤمن الملائكة على ذلك الدعاء بالخير.
ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الدعاء العظيم لـ أبي سلمة: (اللهم! اغفر لـ أبي سلمة)، وهذا دعاء له بمغفرة الذنوب، (وارفع درجته في المهديين)، وهذا دعاء برفعة الدرجات، فالأول فيه التجاوز عن الذنوب، والثاني فيه رفعة الدرجات في المهديين، وهم الذين هداهم الله عز وجل وصارت لهم الدرجات العالية في الجنة، فدرجته رضي الله عنه في جملة المهديين، (واخلفه في عَقِبه في الغابرين)، وعَقِبه هم أهله الذين من ورائه.
قوله: (في الغابرين) أي: في الباقين، والمقصود بالغابر هنا الباقي، وقد يأتي بمعنى الماضي، وبمعنى الهالك، فهي من الأضداد، وهي هنا بمعنى الباقين، أي: الذين بقوا بعده، ومن إتيانها بمعنى الهالك: ما جاء في امرأة لوط: {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} [الشعراء:١٧١] أي: الهالكين؛ إذ إنها ليست من الناجين، ولا من الباقين، وإنما هي من الهالكين.
وللإمام الذهبي رحمه الله كتاب اسمه (العبر في خبر من غبر)، أي: من مضى.
قوله: (واخلفه في عَقِبه في الغابرين، واغفر لنا وله رب العالمين!) وهذا دعاءٌ للحي والميت، فبعد أن دعا له في الأول بالمغفرة، وأن ترفع درجته، وأن يُخلف في عَقِبه؛ أتى بدعاءٍ بالمغفرة يشمل الحي والميت، فقال: (واغفر لنا وله رب العالمين!) أي: يا رب العالمين! ثم دعا له بدعاءٍ يخصه، فقال: (اللهم! افسح له في قبره) أي: وسع له في قبره، (ونور له فيه) أي: فيكون فسيحاً ومضيئاً.