[شرح حديث (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم)]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب قال: أخبرني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء أن سهل بن أبي أمامة حدثه: (أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك رضي الله عنه بالمدينة في زمان عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة، فإذا هو يصلي صلاة خفيفةً دقيقة، كأنها صلاة مسافر أو قريباً منها، فلما سلم قال أبي: يرحمك الله! أرأيت هذه الصلاة المكتوبة أو شيء تنفلته؟ قال: إنها المكتوبة، وإنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أخطأت إلا شيئاً سهوت عنه، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار، {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:٢٧]، ثم غدا من الغد فقال: ألا تركب لتنظر ولتعتبر؟ قال: نعم، فركبوا جميعاً فإذا هم بديار باد أهلها، وانقضوا وفنوا، {خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة:٢٥٩] فقال: أتعرف هذه الديار؟ فقلت: ما أعرفني بها وبأهلها! هذه ديار قوم أهلكهم البغي والحسد، إن الحسد يطفئ نور الحسنات، والبغي يصدق ذلك أو يكذبه، والعين تزني، والكف والقدم والجسد واللسان، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)].
أورد أبو داود حديث: (أن سهل بن أبي أمامة دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة في زمن عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة، فإذا هو يصلي صلاة خفيفة دقيقة، كأنها صلاة مسافر أو قريباً منها، فلما سلم قال أبي: يرحمك الله! أرأيت هذه الصلاة المكتوبة أو شيء تنفلته؟ قال: إنها المكتوبة، وإنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أخطأت إلا شيئاً سهوت عنه، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم)].
أي: أنه ظن أنها نافلة فسأله، فأخبره أنها المكتوبة، وأنه خففها، وعند ذلك ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشددوا فيشدد الله عليكم، فإن قوماً كانوا كذلك فشدد الله عليهم)، وذكر أن بقاياهم في البيع والصوامع والأديرة، وأن الله تعالى أهلكم بسبب التشديد الذي حصل منهم على أنفسهم.
والحديث في إسناده ابن أبي العمياء، وابن القيم أشار إلى أن الذي جاء عن أنس بن مالك خلاف ذلك فقال: وأما حديث سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء، ودخول سهل بن أبي أمامة على أنس بن مالك؛ فإذا هو يصلي صلاة خفيفة، كأنها صلاة مسافر؛ فقال: إنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا مما تفرد به ابن أبي العمياء، وهو شبه المجهول، والأحاديث الصحيحة عن أنس كلها تخالفه، فكيف يقول أنس هذا وهو القائل: إن أشبه من رأى صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن عبد العزيز؟ وكان يسبح عشراً عشراً، وهو الذي كان يرفع رأسه من الركوع حتى يقال: قد نسي، وكذلك من بين السجدتين، ويقول: ما آلو أن أصلي لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يبكي على إضاعتهم الصلاة، ويكفي في رد حديث ابن أبي العمياء ما تقدم من الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا مطعن في سندها ولا شبهة في دلالتها، فلو صح حديث ابن أبي العمياء -وهو بعيد عن الصحة- لوجب حمله على أن تلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم للسنة الراتبة، كسنة الفجر والمغرب والعشاء، وتحية المسجد ونحوها، لا أن تلك صلاته التي كان يصليها بأصحابه دائماً، وهذا مما يقطع ببطلانه، وترده سائر الأحاديث الصريحة الصحيحة، ولا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخفف بعض الصلاة، كما كان يخفف سنة الفجر، حتى تقول عائشة أم المؤمنين: هل قرأ فيها بأم القرآن؟ وكان يخفف الصلاة في السفر حتى كان ربما قرأ في الفجر بالمعوذتين، وكان يخفف إذا سمع بكاء الصبي، فالسنة التخفيف حيث خفف، والتطويل حيث أطال، والتوسط غالباً.
فالذي أنكره أنس هو التشديد الذي لا يخفف صاحبه على نفسه مع حاجته إلى التخفيف، ولا ريب أن هذا خلاف سنته وهديه.
انتهى كلام ابن القيم.
وهذا يبين أن المتن فيه نكارة، والسند فيه ضعف، بسبب ابن أبي العمياء، فإنه قال عنه ابن القيم: إنه شبه المجهول، ثم أيضاً هذه الأحاديث الكثيرة التي جاءت عن أنس نفسه من فعله وقوله، وإسناده ذلك إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتشبيه صلاة عمر بن عبد العزيز بصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا يعدون له وهو ساجد: سبحان ربي الأعلى مقدار عشر مرات، كل هذا ينافي هذا الكلام الذي جاء في حديث ابن أبي العمياء.
وقوله: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:٢٧]، ثم غدا من الغد فقال: ألا تركب لتنظر ولتعتبر؟!) أي: خرج أبو أمامة غدوة، فقال -أي: أنس -: ألا تخرج لتعتبر؟ وقوله: (قال: نعم، فركبوا جميعاً فإذا هم بديار باد أهلها وانقضوا وفنوا، خاوية على عروشها، فقال: أتعرف هذه الديار؟ فقلت: ما أعرفني بها وبأهلها! هذه ديار قوم أهلكهم البغي والحسد، إن الحسد يطفئ نور الحسنات، والبغي يصدق ذلك أو يكذبه) هذا محل الشاهد على باب الحسد، قوله: (الحسد يطفئ نور الحسنات، والبغي يصدق ذلك أو يكذبه) أي: أن البغي يأتي نتيجة للحسد، والحسد يكون سبباً للبغي؛ لأن الإنسان الذي يبغي لا يأتي إلا بشيء في نفسه، فكون قلبه يتأجج من الحقد والغيظ يجعله يمد يده ويحصل منه البغي.
وقوله: (والعين تزني، والكف والقدم والجسد واللسان، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) هذا أمر ثابت في الأحاديث، كقوله عليه الصلاة والسلام: (العين تزني وزناها النظر) وآخر ذلك: (والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)، أي: إذا وصل إلى هذه الغاية وجد الزنا الذي يعتبر الغاية وما قبله وسيلة إليه.