للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[إثبات القدر وورود أدلته في الكتاب والسنة]

قوله: [ولقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غير حديث ولا حديثين، وقد سمعه منه المسلمون فتكلموا به في حياته وبعد وفاته].

لقد جاء القدر في كتاب الله عز وجل، وذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، فقال الله عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:٤٩] وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:٢٢] وقال: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:٥١]، وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان)، فقوله: (احرص على ما ينفعك) أي: خذ بالأسباب، ومع أخذك بالأسباب اعتمد على مسبِّب الأسباب وهو الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال: (واستعن بالله)؛ لأن الإنسان إذا أخذ بالأسباب ولم يحصل له عون وتوفيق من الله تعالى فلا يحصل ما يريد، فمجرد الأخذ بالأسباب لا يكفي، بل يُحتاج إلى شيء وراءه وهو توفيق الله وإعانته على حصول ذلك الشيء، كما أنه لا يترك الأسباب ويقول: أنا متوكل، وإذا قدر الله لي شيئاً فإنه سيأتيني، فهذا كلام باطل، فلو أن إنساناً قال: إذا قدر الله لي أن يأتيني ولد فسيأتيني ولو لم أتزوج، فيقال له: إن الولد لا يأتي إلا عن طريق الزواج، أو عن طريق التسرّي، لأن الزواج أخذ بالأسباب، ومع الأخذ بالأسباب قد يوجد الولد وقد لا يوجد، فالإنسان إذا تزوج فقد يولد له وقد لا يولد له.

فمجرد الأخذ بالأسباب ليس هو كل شيء، لكن السبب مشروع، ومع الأخذ بالأسباب يستعين الإنسان بالله عز وجل، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً) فالطير لم تجلس في أوكارها، وتقول: إن قدِّر لي شيء فسيأتيني، بل إنها تغدو في الصباح خاوية البطون، وترجع في المساء ممتلئة البطون، إذاً فلا بد من الأخذ بالأسباب.

وقال صلى الله عليه وسلم: (كل شيء بقدر حتى العجز والكسل)، فكسل الكسول، ونشاط النشيط، كله مقدّر، فالإنسان المتحرك حركته بقدر، والإنسان الخامل خموله بقدر، وكل شيء بقضاء وقدر، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكذلك جاءت نصوص كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، وقد عقد الإمام البخاري كتاباً في صحيحه سماه (كتاب القدر)، وكذلك مسلم عقد في صحيحه (كتاب القدر)، وكثير من المحدثين يعقدون في مؤلفاتهم كتباً باسم القدر، ويوردون الأحاديث التي وردت في ذلك عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، والإيمان بالقدر هو أحد أصول الإيمان الستة المبينة في حديث جبريل، حيث سأله عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره).

قوله: [وقد سمعه منه المسلمون فتكلموا به في حياته وبعد وفاته يقيناً وتسليماً لربهم].

أي: أن الصحابة سمعوا الكلام في القدر، فتكلموا فيه في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، وآمنوا وسلموا به يقيناً وإيماناً وتصديقاً وإقراراً وتضعيفاً لأنفسهم، فلم يترددوا في شيء جاء عن الله ورسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وكذلك استبعدوا واستحالوا أن يقع شيء لم يقدره الله عز وجل.

قوله: [وتضعيفاً لأنفسهم أن يكون شيء لم يحط به علمه، ولم يحصه كتابه] أي: نزهوا الله عز وجل عن أن يكون هناك شيء لم يحط به علمه، بل إن كل شيء قد أحاط الله به علماً، وكل ما قدر فقد سبق به علم الله، وهو مكتوب في اللوح المحفوظ، فنزهوا الله عز وجل أن يكون هناك شيء لم يحط به علمه، أو لم يشتمل عليه اللوح المحفوظ، وهاتان هما المرتبتان الأوليان من مراتب القدر: علم الله الأزلي، وكتابته في اللوح المحفوظ.

قوله: [ولم يمضِ في قدره] أي: وقوع الشيء الذي قد شاءه الله وأراده، أو عدم وقوعه.

قوله: [وإنه مع ذلك لفي محكم كتابه].

أي: كما أنه جاء ذكر القدر في السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وسمعه الصحابة منه، وجاء في أحاديث كثيرة، فكذلك جاء في محكم كتاب الله عز وجل، ومما جاء في ذلك قول الله عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:٤٩] وقول الله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:٢٢] وقول الله عز وجل: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:٥١] وغير ذلك من الآيات، وهو في كتاب الله عز وجل واضح جلي لا خفاء فيه، وكذلك هو موجود في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في السنة على أنه أحد أركان الإيمان الستة كما في حديث جبريل: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره).

قوله: [منه اقتبسوه، ومنه تعلموه].

يعني: من القرآن اقتبسوه ومنه تعلموه كما تعلموه من السنة، فقد اجتمع على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، وهو أحد أصول الإيمان الستة المبينة في حديث جبريل.

<<  <  ج:
ص:  >  >>