[لا تنافي بين كون أفعال العباد من كسبهم وهي من خلق الله عز وجل]
إن الله تعالى هو خالق كل شيء، فليس هناك أحد يخلق مع الله، {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:٣] فالكل خلقه وإيجاده، ولكن لا يقال: إن العباد ليس لهم مشيئة ولا إرادة، بل لهم مشيئة وإرادة، ولهذا كلفوا وأمروا ونُهوا، وبيِّن لهم أن هذا الطريق يوصل إلى الجنة، وأن هذا الطريق يوصل إلى النار، وأن هذه الأعمال توصل إلى الجنة، وهذه الأعمال توصل إلى النار، وعندهم عقول يدركون ويفهمون بها، فمن عمل بعمل السعادة انتهى إلى السعادة، ومن عمل بعمل الشقاوة انتهى إلى الشقاوة، وقد جاء ذلك في حديث علي وسيأتي عند المصنف -لما قالوا: (يا رسول الله ألا نتكل على كتابنا- وندع العمل، قال: لا، اعملوا فكل ميسر، فأما أهل السعادة فييسرون إلى عمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة).
لكن لا يجوز أن تسلب الإرادة والمشيئة من العبد كما هو قول الجبرية، ولا يجوز أن يقال: إن الله تعالى لم يقدر أعمال العباد ولم يخلقها، وإنهم هم الذين يخلقونها ويوجدونها كما هو قول القدرية النفاة (المعتزلة)، ولا يدخلون أفعال العباد في معنى الآيات العامة التي تدل على عموم خلقه، بل يدخلون تحتها ما لا يجوز أن يدخل، فيقولون: إن القرآن مخلوق، ويقولون: إذا كان الله خالق كل شيء فسيكون القرآن مخلوقاً، وأما أفعال العباد التي لا يجوز أن تخرج من خلق الله فإنهم يخرجونها، فأدخلوا ما لا يصلح دخوله، وأخرجوا ما لا يصلح خروجه، ولاشك أن كلتا الطائفتين منحرفتان عن الحق والهدى، ومجانبتان للصواب، والحق وسط بينهما.
فأهل السنة والجماعة وسط في باب القدر بين الجبرية المثبتة الغلاة في الإثبات، وبين القدرية النفاة، لأن السنة يقولون: إن أفعال العباد خلق الله عز وجل، وهي كسب للعباد، فقد حصلت بمشيئتهم وإرادتهم التابعة لمشيئة الله وإرادته، فالعباد ليسوا مستقلين بحيث إنهم يحصل منهم شيء في الوجود لم يقدره الله تعالى، ولا يقال: إنهم لا إرادة لهم ولا مشيئة، وإنهم مسيرون، وإنهم مثل الأشجار التي تحركها الرياح، ومثل حركة المرتعش، ولا يقال: إنهم مجبورون على أعمالهم، وكيف يكلفون وهم مجبورون؟! وكيف يقال لهم: افعلوا كذا وكذا وليس لديهم مشيئة ولا إرادة؟ بل لهم مشيئة وإرادة، لكن لا يقال: إن مشيئتهم وإرادتهم مستقلة، وإنهم قد يفعلون شيئاً لم يقدره الله تعالى، بل مشيئتهم تابعة لمشيئة الله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:٢٩]، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر، فأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة)، فهؤلاء عملوا بمشيئتهم وإرادتهم، وهؤلاء عملوا بمشيئتهم وإرادتهم، وكل ذلك يكون مطابقاً لما شاءه الله وقدره وقضاه، فأعمال العباد هي كسب للعباد وخلْق الله عز وجل، فتتعلق بمشيئتهم وإرادتهم، ويحمدون على حسنها، ويذمون على سيئها، وما حصل منهم من الحسن والسيئ فإنه داخل تحت خلق الله عز وجل ومشيئته.
وأما ما جاء في الحديث: (والشر ليس إليك)، فليس معناه أنه ليس إلى الله خلقاً وإيجاداً، وإنما المقصود من ذلك -كما قال بعض أهل العلم- أن الله عز وجل لا يخلق شراً محضاً لا خير فيه بوجه من الوجوه، بل إنه خلق الشر لحكمة، ويترتب عليه مصلحة وفائدة، فلا يقال: إنه تعالى يخلق شراً لا فائدة من ورائه ولا حكمة، ولا يترتب عليه مصلحة، بل كل ما يخلقه لحكمة، فالشر هو خلق الله، والخير هو خلق الله، وكل شيء بخلقه وإيجاده، وبقضائه وقدره، ولهذا فإن عقيدة المسلمين تدور وتنبني على كلمتين وهما: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فما أصابك لم يكن ليخطئك، وهذا هو الذي شاءه الله أن يكون، فلا يمكن أن يتخلف، وما أخطأك لم يكن ليصيبك؛ وهذا هو الذي قدر الله أنه لا يكون، فلا يمكن أن يحصل لك.
ولهذا جاء في حديث ابن عباس (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)، فلا يحصل في الوجود حركة إلا بقضاء الله وقدره كما قال عليه الصلاة والسلام: (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس)، فحتى نشاط النشيط، وحركة المتحرك، وخمول الخامل كل ذلك مقدر.
وبهذا الجواب يتبين لنا أن العبد لا يكون مسيَّراً فقط أو مخيَّراً فقط، وإنما هو مسيَّر باعتبار ومخير باعتبار، فهو مخير وليس بمجبور، بمعنى أنه له مشيئة وإرادة، وقيل له: هذا يوصلك إلى الجنة، وهذا يوصلك إلى النار، فالإنسان يختار طريق السعادة أو طريق الشقاوة، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:١٠]، ومسيَّر باعتبار أنه لا يحصل منه شيء خارج عن مشيئة الله وإرادته، بل ما شاءه الله فلابد أن يوجد، لكن لا يقال: إن ما شاءه الله لابد أن يوجد، وليس للإنسان مشيئة ولا إرادة.
فالإنسان الذي ترتعش يده لا يكون هذا من فعله ولا من كسبه، ولا يقال له: كفّ يدك عن التحرك؛ لأنه لا يقدر على هذا، لكن إذا كان الإنسان يؤذي الناس فإنه يقال له: كف يدك عن الناس، ويؤدب حتى يكف؛ لأنه يستطيع أن يفعل ذلك، وهذا شيء بإرادته ومشيئته، وبهذا يتبيّن الفرق بين الشيء الذي يكون تحت مشيئة الإنسان، والشيء الذي ليس تحت مشيئته، فالجبرية يقولون: إن جميع حركات العباد كحركة المرتعش، أي: أن الإنسان ليس له مشيئة ولا إرادة، وهذا باطل.
وهذه المعاني التي ذكرتها الآن مما يتعلق بالقضاء والقدر، هي وغيرها ذكرتها في كتاب (شرح العقيدة القيروانية).