والتورية ليست من الكذب، وإنما هي صدق، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يذهب إلى جهة الجنوب يسأل عن أماكن في جهة الشمال، فأي كذب في هذا؟! ليس هناك كذب، وإنما فيه قطع الطريق أمام العدو بحيث إنه تصل إليه الأخبار معكوسة؛ لأنه قد يكون له جواسيس، فإذا علم بأن الأسئلة إلى جهة أخرى يأمن ولا يستعد، بسبب هذه التورية.
وكونه يسأل عن جهة الشمال وهو يريد الجنوب ليس كذباً؛ لأنه يسأل عن الموارد والمسالك والطرق في الجهة المقابلة، وهذه تورية وهي صدق.
وأحياناً تكون التورية بأن الإنسان يريد شيئاً وغيره يفهم شيئاً آخر، فالمتكلم صادق فيما يقول؛ لكن غيره فهم شيئاً آخر، مثل تورية أم سليم لـ أبي طلحة لما جاء وقد مات ابنه، ولكنها ما أرادات أن تزعجه فسأل عنه فقالت: إنه قد سكنت نفسه واستراح، ففهم أنه قد خف مرضه، وهي تريد أنه انتهى نفسه، وخرجت روحه، فكلامها صحيح، فهي تريد شيئاً وهو فهم شيئاً آخر، وكذلك لفظ:(استراح) يفهم منه أنه حصلت له راحة وهدوء، وخف المرض عنه، وهي تريد أنه فاضت روحه، فالتورية يكون القائل فيها صادقاً في قوله، والذي يسمعه يفهم شيئاً آخر.
كذلك ما يذكر عن بعض العلماء في فتنة خلق القرآن، فمنهم من امتنع من القول بخلق القرآن كالإمام أحمد، ومنهم من ورى، ومن الذين وروا قال: أشهد أن القرآن والتوراة والإنجيل والزبور هؤلاء كلهن مخلوقات.
ويشير بأصابعه، يعني: الأربع هؤلاء مخلوقات، فهذه تورية، لأنه أراد الأصابع، وذاك يفهم أنه يريد الكتب السماوية، فالتورية ليست كذباً، فالإنسان صادق في قوله، ولكنه في بعض المواضع قد يفهم خلاف ما يريده الإنسان، فهو يريد شيئاً وغيره يفهم شيئاً آخر، وتوجد أمثلة كثيرة للتورية جاءت في الأحاديث.
ومن ذلك قصة غزوة بدر لما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رجل فقال: من أين أنتم؟ قال:(نحن من ماء) فالكلام صحيح أنه من ماء.
وأما الإكثار منها فإنه لا يصلح، فالإتيان بها لا يكون إلا عند الحاجة، أما كون الإنسان يأتي بها من غير حاجة فلا يصلح، أما إذا كان من حاجة كالإكراه أو ككون الإنسان يريد أن يتخلص من إنسان ابتلي به، فلا بأس أن يأتي بشيء يوري فيه، كالذي حصل من أم سليم مع أبي طلحة رضي الله تعالى عنهما، أما كون الإنسان تكون عادته التورية من غير حاجة فهذا لا ينبغي.