للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[شرح أثر ابن مسعود: (حافظوا على هؤلاء الصلوات الخمس)]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عباد الأزدي حدثنا وكيع عن المسعودي عن علي بن الأقمر عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (حافظوا على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن؛ فإنهن من سنن الهدى، وإن الله شرع لنبيه صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق بين النفاق، ولقد رأيتنا وإن الرجل ليهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف، وما منكم من أحد إلا وله مسجد في بيته، ولو صليتم في بيوتكم وتركتم مساجدكم تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، ولو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم لكفرتم)].

أورد أبو داود رحمه الله أثر ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وهذا الأثر العظيم عن ابن مسعود رضي الله عنه يدل على عظم شأن الجماعة وأهمية صلاة الجماعة وما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم وأرضاهم من الاهتمام بصلاة الجماعة والحرص عليها وتحمل المشاق في سبيل الوصول إليها مع شدة المرض وعدم القدرة على المشي، فكان الواحد منهم يؤتى به يُهادى بين الرجلين، أي: واحد يمسك عضده الأيمن والثاني يمسك عضده الأيسر؛ لأنه لا يستطيع أن يمشي بمفرده، بل يحتاج إلى من يساعده بأن يسنده من جهة اليمين والشمال حتى يأتي إلى المسجد ويقام في الصف.

فكانوا يفعلون ذلك لحرصهم على الأجر الذي يكون في صلاة الجماعة، ولمعرفتهم الأجر العظيم في ذلك، ولهذا كان الواحد منهم يصيبه المرض فلا ترضى نفسه بأن يصلي في بيته مع أنه معذور، ولو صلى في بيته فإنه يؤجر على ما كان يفعل في حال صحته وقبل مرضه من الذهاب إلى المسجد، فالله تعالى يأجره على ذلك كما جاء في الحديث الذي أشرت إليه آنفاً، والذي هو في صحيح البخاري: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم).

ثم بين أن التخلف عن الجماعة من علامات النفاق، وصفة من صفاتهم، حيث قال: [ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق] وقد جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كنا إذا فقدنا الرجل في صلاة العشاء اتهمناه، يعني: اتهمناه بالنفاق.

فهذا الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه يدل دلالة واضحة على عظم شأن الجماعة وأهميتها، وعلى اهتمام الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم بها وحرصهم عليها وتحمل المشاق في سبيل الوصول إليها مع شدة المرض وعدم القدرة على المشي؛ لأنهم يعلمون الأجر العظيم في ذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام في حق المنافقين: (ولو يعلمون ما فيهما من الأجر لأتوهما ولو حبواً)، فكان الصحابة يعلمون الأجر، ولهذا كانوا يحرصون على أن يحصلوه حتى مع شدة مرضهم.

يقول عبد الله بن مسعود: (حافظوا على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن) والمقصود من ذلك: المحافظة على الجماعة، وقوله: (حيث ينادى بهن) يعني: حين يقال: (حي على الصلاة حي على الفلاح) يعني أن المؤذن يقول: هلموا وأقبلوا وتعالوا، فالإنسان يحافظ على الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، فيجيب الداعي ويترك ما وراءه من أي شاغل ويتجه إلى الصلاة ويؤدي الصلاة جماعة مع المسلمين في المساجد؛ لأن المساجد إنما بنيت لذلك، ولم تبن للمباهاة أو للزينة أو لغير ذلك، وإنما بنيت لعبادة الله عز وجل وذكره والصلاة فيها وقراءة القرآن وما إلى ذلك مما هو ذكر لله سبحانه وتعالى.

قوله: [حافظوا على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن؛ فإنهن من سنن الهدى] يعني: الصلوات الخمس والذهاب إلى المساجد لأدائها من سنن الهدى، يعني: من السنن والطرق والمناهج التي جاءت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس المقصود بالسنة الأمر المستحب الذي هو دون الواجب، فإن هذا سنة في اصطلاح الفقهاء؛ لأنهم قسموا الأحكام إلى: واجب، ومندوب، ومحرم، ومكروه، ومباح، فالذي أمر به على سبيل الإلزام هو الواجب، والذي أمر به أمراً غير جازم هو الذي يكون سنة ويكون مستحباً ويكون مندوباً، ولكن السنة تطلق إطلاقاً عاماً، وهو أن كل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحق والهدى فهو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهجه وطريقته، وسواءٌ في ذلك ما جاء في القرآن أو ما جاء في السنة؛ لأن كل ذلك يقال له: سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (من رغب عن سنتي فليس مني) يعني: ما جاء به من الحق والهدى.

فالسنة تطلق ويراد بها كل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع التفاوت في الحكم من حيث الإلزام بالفعل أو الترك أو كون ذلك دون الإلزام، وسواءٌ كان بالفعل أم بالترك، فهذا كله يقال له: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والسنة تطلق أربعة إطلاقات: الأول: تطلق ويراد بها كل ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة، فذلك كله يقال له: سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنه قوله: (من رغب عن سنتي فليس مني)، وكذلك قوله هنا: [من سنن الهدى] لأن المقصود بذلك ما جاء عن رسول الله وما كان عن هدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس المقصود من ذلك الأمور المندوبة التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، فالجماعة يثاب فاعلها ويعاقب تاركها؛ لأن تاركها ترك أمراً واجباً.

الثاني: تطلق ويراد بها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلة ذلك قول العلماء من محدثين وفقهاء عندما يذكرون مسألة من المسائل: وهذه المسألة دل عليها الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقول الله تعالى كذا، وأما السنة فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا.

الثالث: تطلق السنة ويراد بها ما يقابل البدعة، أي: تطلق على أي عمل على وفق السنة مخالف للبدعة، أو ليس على وفق البدعة.

والإطلاق الرابع: تطلق على المأمور به ليس على سبيل الإلزام، وهذا هو الذي يقال له: المندوب والمستحب والمسنون، فالفقهاء إذا قالوا: يسن كذا، أو يستحب كذا، أو يندب كذا، فكل هذه معناها واحد.

قوله: [ولقد رأيتنا] يعني معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [وما يتخلف عنها إلا منافق]، يعني أنهم لم يكونوا يتخلفون عن الصلاة، بل كانوا يحرصون على الصلاة، وعلامة المنافق أن يتخلف عن الصلاة.

وقوله: [ولقد رأيتنا وإن الرجل ليهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف] هذا فيه بيان ما كانوا عليه من الحرص والرغبة الشديدة وتحمل المشقة في سبيل الوصول إلى ذلك؛ لأنهم كانوا يعلمون الأجر العظيم في ذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام في حق المنافقين: (ولو يعلمون ما فيهما من الأجر لأتوهما ولو حبواً).

وقوله: [ما منكم من أحد إلا وله مسجد في بيته] أي: ما منكم من أحد إلا وهو يصلي في بيته، والصلاة مشروعة في البيوت، وقد جاءت السنة بالترغيب في الصلاة فيها والحث عليها، بل إن صلاة النافلة في البيت أفضل من الصلاة في المسجد، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة الرجل في بيته أفضل إلا المكتوبة) أي: فإنها لا تصلى في البيت وإنما تصلى في المسجد، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) يعني: لا تجعلوها مثل القبور بأن لا يصلى فيها، بل صلوا فيها، ولذا قال: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تتخذوا قبري عيداً) يعني أنها لا تعامل البيوت معاملة المقابر التي ليست محلاً للصلاة وليست مكاناً للصلاة، وإنما يجعل لها نصيب من الصلاة، بل إن غير الفرائض أفضل أحوالها أن تؤدى في البيت وأن تكون في البيت.

وقوله: [ولو صليتم في بيوتكم، وتركتم مساجدكم -أي: المساجد التي بنيت للجماعة- لتركتم سنة نبيكم] صلى الله عليه وسلم يعني: لو صليتم في بيوتكم -وما منكم من أحد إلا وله مسجد في بيته وله مكان أو أماكن يصلي فيها في بيته- وتركتم مساجدكم التي بنيت للعبادة ولإقامة الجماعة لتركتم سنة نبيكم التي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم الحث عليها، بل جاء التشديد في تركها، والترجمة معقودة للتشديد في ترك الجماعة.

وقوله: [ولو تركتم سنة نبيكم لكفرتم] أي أن الإنسان إذا ترك السنة أو ترك السنن جره ذلك الترك إلى ترك آخر، وقد يؤدي ذلك إلى رفض السنة بأكملها، وقد يؤدي ذلك إلى ترك ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم مما هو أمر لابد منه ويؤدي تركه إلى الكفر، كترك الصلاة التي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن تركها كفر، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (بين المسلم وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة)، وقال: (من تركها فقد كفر)، وذكر الولاة الذين يتولون وهم ظلمة وفيهم فسق فقال له الصحابة: أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: (لا ما صلوا)، وهذا يدل على أن عدم الصلاة كفر، وأنهم إذا كانوا لا يصلون، وأنهم تاركون للصلاة فإنهم أتوا الكفر الذي يستحقون به الخروج عليهم، فهذا يدلنا على أن الصلاة المفروضة لازمة، وأن تركها كفر، وأما الجماعة فتركها معصية كبيرة وذنب كبير، ولا يقال له: كفر، وإنما الكفر في ترك الصلاة وعدم الإتيان بها في المسجد ولا في البيت، والعياذ بالله.

<<  <  ج:
ص:  >  >>