[شرح حديث: (أما هذا فكان لا يستنزه من البول)]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الاستبراء من البول.
حدثنا زهير بن حرب وهناد بن السري قالا: حدثنا وكيع حدثنا الأعمش قال: سمعت مجاهداً يحدث عن طاوس عن ابن عباس قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير: أما هذا فكان لا يستنزه من البول، وأما هذا فكان يمشي بالنميمة.
ثم دعا بعسيب رطب فشقه باثنين، ثم غرس على هذا واحداً وعلى هذا واحداً وقال: لعله يخفف عنها ما لم ييبسا).
قال هناد: (يستتر) مكان (يستنزه)].
الاستبراء من البول: هو الاستنزاه منه، والحرص على السلامة من أن يتطاير على الثوب أو الجسد، فلا يتهاون الإنسان في البول بأن يقع على جسده أو ملابسه ثم لا يستنزه منه، بل عليه أن يحرص على ألا يكون في ثيابه على بدنه نجاسة؛ لأنه ورد الوعيد الشديد فيه، وبيان أنه من الكبائر؛ وذلك لأنه جاء فيه عذاب القبر.
ومن المعلوم أن الكبائر هي: الذنوب التي عليها حد في الدنيا، أو توعد عليها بلعنة أو غضب أو نار.
وهنا بين أن صاحب ذلك القبر يعذب في قبره؛ بسبب عدم الاستنزاه من البول، فالإنسان إذا علم النجاسة فعليه أن يبادر إلى إزالتها.
لكنه إذا صلى ثم علم أن في ثوبه أو على بدنه نجاسة فإن صلاته صحيحة، وإن علم في أثناء الصلاة فإن عليه أن ينزع الذي فيه نجاسة إذا كان يمكن نزعه ويواصل الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في نعليه وفي أثناء الصلاة نزعهما، فالناس نزعوا نعالهم، ولما فرغ أخبرهم بأن جبريل جاءه وأخبره بأن فيهما نجاسة.
فكون النبي صلى الله عليه وسلم بنى على ما قبل النزع دلنا على أن الصلاة تصح في الثوب إذا كان فيه نجاسة أو البدن إذا كان عليه نجاسة إذا لم يعلم إلا بعد الفراغ من الصلاة.
وسواء كان قد أصابته النجاسة ولا يدري عنها ولا عرفها إلا بعد الصلاة، أو كان يعلمها من قبل ولكنه نسيها فإن الصلاة تصح، وهذا بخلاف الوضوء، فإن الإنسان إذا صلى بدون وضوء فعليه أن يعيد الصلاة، وإذا صلى وفي ثوبه نجاسة أو عليه نجاسة ولم يعلم بها إلا بعد الفراغ من الصلاة فإن صلاته صحيحة، بدليل حديث نزع الرسول صلى الله عليه وسلم نعليه وهو في الصلاة، وقد اعتبر ما مضى من صلاته قبل النزع، فلو كان ذلك غير سائغ وغير صحيح لاستأنف النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة من أولها.
أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عباس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير)، يعني: أن الله تعالى أطلع نبيه على أن صاحبي هذين القبرين يعذبان، وقال: (وما يعذبان في كبير)، وليس معنى قوله: (وما يعذبان في كبير) يعني: تسهيل أو تهوين النميمة وعدم الاستبراء من البول، وإنما المقصود: أن تركه شيء سهل عليهما ويسير عليهما، وليس عليهما في تركه مشقة، وليس فيه تعب عليهما، بل تركه هين عليهما، ولكنهما تهاونا في ذلك ووقعا في هذا الأمر المحرم، مع أنه ليس بشيء كبير يشق عليهما، بل هو هين إذا وفقهما الله عز وجل للتخلص منه والسلامة منه.
فلا يعني ذلك أنه ليس من الكبائر؛ لأن الذنب كبير، ولهذا فالإنسان يعذب عليه في قبره، ولكن المقصود بالنفي هو أنه هين عليهما التخلص منه والسلامة منه، وعدم الوقوع فيه، ومع ذلك فقد وجد منهما التهاون حتى وقعا فيما وقعا فيه.
وقوله: (إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستنزه من البول أو لا يستبرئ من البول) هذا فيه إثبات عذاب القبر، والأحاديث فيه متواترة، بل قد جاء في القرآن إثبات عذاب القبر، كما قال الله عز وجل في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:٤٦]، فهم يعرضون على النار غدواً وعشياً، أي: وهم في القبور قبل أن تقوم الساعة.
فهذا فيه إثبات عذاب القبر من القرآن الكريم، وأما الأحاديث فهي أحاديث كثيرة جداً ومتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن عذاب القبر حق، وأنه يصل إلى من يستحقه، فالكفار يعذبون في قبورهم كما جاء في آل فرعون، والعصاة من شاء الله عز وجل أن يعذب عذب ومن شاء ألا يعذب فإن الله تعالى يعفو عنه ويتجاوز.
والحديث الذي معنا يفهم منه أنهما كانا مسلمين؛ لأنهما لو كانا كافرين لكان العذاب على الكفر، فالكفر والشرك أعظم الذنوب وأخطرها، ولكن المقصود: أنهما عُذّبا بهذا الذنب الكبير الذي هو المشي بالنميمة وعدم الاستبراء من البول.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ جريدة رطبة وشقها قطعتين، وغرز في كل قبر قطعة، وقال: (لعله يخفف عنهما مالم ييبسا)، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن يفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلعه الله على هذا الغيب الذي هو حصول العذاب في هذا القبر، وعلى سبب العذاب: وهو النميمة وعدم الاستبراء من البول، وأما الناس فإنهم لا يعلمون، ولا يحصل لهم ما يحصل للرسول صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يطلعه الله عز وجل من الغيب على مالم يطلع عليه أمته، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع).
فالرسول صلى الله عليه وسلم قد أطلعه الله على ما يجري في القبور، ويسمع ما يحصل في القبور من العذاب والصراع والصياح الذي يكون بسبب ذلك، والبهائم كذلك تسمع ما يجري في القبور، والله تعالى أخفى ذلك على المكلفين: الجن والإنس؛ حتى يتبين أولياء الله من أعداء الله، وحتى يتبين من يؤمن بالغيب ومن لا يؤمن بالغيب؛ لأنهم لو أطلعوا على ما يجري في الغيب وما يجري في القبور لما بقي هناك تمييز بين من يكون ولياً وبين من كان غير ولي، والله تعالى شاء أن يكون الناس فريقين: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)، فريق يؤمن بالغيب، وفريق لا يؤمن إلا بما يشاهده ويعاينه.
فالبهائم -كما جاء في بعض الأحاديث- تسمع، والرسول صلى الله عليه وسلم يسمع، وقد قال: (لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع)، يعني: أنهم لو سمعوا ما يجري في القبور من الصراخ والصياح لما قرّ لهم قرار ولا هدأ لهم بال، بل يمكن أن يصيبهم المرض، ويصيبهم التعب حتى يموتوا، ولا يتمكن بعضهم من أن يدفن بعضاً، والله أطلع نبيه على مالم يطلعهم عليه.
إذاً: هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن يأتي ويغرز أو يضع شيئاً على المقابر، أو ما إلى ذلك من الأشياء التي تفعل في بعض الجهات وفي بعض البلاد؛ فإن هذا من الأمور المنكرة.