للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[شرح حديث النعمان بن بشير: (هذا تلجئة فأشهد على هذا غيري)]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يفضل بعض ولده في النحل.

حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم أخبرنا سيار وأخبرنا مغيرة وأخبرنا داود عن الشعبي، وأخبرنا مجالد وإسماعيل بن سالم عن الشعبي عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: (أنحلني أبي نحلاً، قال إسماعيل بن سالم من بين القوم: نحلة غلاماً له، قال: فقالت له أمي عمرة بنت رواحة: ائت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأشهده، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأشهده، فذكر ذلك له فقال له: إني نحلت ابني النعمان نحلاً، وإن عمرة سألتني أن أشهدك على ذلك، قال: فقال: ألك ولد سواه؟ قال: قلت: نعم، قال: فكلهم أعطيت مثل ما أعطيت النعمان؟ قال: لا).

قال: فقال بعض هؤلاء المحدثين: (هذا جور)، وقال بعضهم: (هذا تلجئة فأشهد على هذا غيري).

قال مغيرة في حديثه: (أليس يسرك أن يكونوا لك في البر واللطف سواء؟ قال: نعم، قال: فأشهد على هذا غيري).

وذكر مجالد في حديثه: (إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم، كما أن لك عليهم من الحق أن يبروك)].

أورد أبو داود: باب في الرجل يفضل بعض ولده في النحل، يعني: في العطية، والنحل جمع نحلة وهي العطية، فلا يجوز أن يخص الوالد بعض أولاده بالعطايا والأموال، فإذا أعطى فليسوِّ بينهم في العطية، فإذا كانوا ذكوراً وإناثاً فإنه يعطي للذكر مثل حظ الأنثيين، فيسوي بين الإناث ويسوي بين الذكور، ويجعل للذكر مثل حظ الأنثيين كالشأن في الميراث، فمن الناس من يريد أن يسوي بين الذكور والإناث في الحياة، حتى لا يحصل التفريق بينهم بعد الممات، فيريد أن يعطي النساء أكثر مما يستحققنه وذلك بأن يعطيهن في حياته وهذا غلط، فإذا وزع عليهم في الحياة فليوزع كما يوزع الميراث، وهذا من حيث العطايا، وأما من حيث النفقة فإن ذلك يختلف باختلاف أحوالهم، فالصغير يختلف الإنفاق عليه من الكبير، وإذا جاء موعد زواج واحد منهم يزوجه، لكن لا يرصد لكل واحد مقدار ما أعطى الآخر في الزواج، وإذا بلغ إلى أنه يعطى سيارة وأعطى سيارة فلا يرصد لكل واحد منهم أن يعطيه ذلك، ولكنه إذا وصل ذاك الذي دونه إلى ما وصل إليه هذا فإنه يعامله كما عامل هذا، لا أنه إذا أعطى إنساناً شيئاً من النفقة أنه يلزمه يرصد للباقين مثل ما رصد له، وإنما يعطي كلاً في وقته بحسبه، فقد ترتفع المهور وقد تنخفض، وقد تزيد أسعار السيارات وقد تنخفض وهكذا.

فالحاصل: أن هذا يعتبر من جملة النفقة التي تختلف باختلاف الأحوال، ولا يعتبر من قبيل العطايا التي لابد فيها من التسوية، وإنما ذلك فيما إذا أعطاهم نقوداً، أو عقاراً، أو أشياء يتملكونها فيسوي بينهم على ما ذكر، وهو أن للذكر مثل حظ الأنثيين.

قال: [(أنحلني أبي نحلاً، قال إسماعيل بن سالم من بين القوم: نحلة غلاماً له).

يعني: أن الرواة الذين رووه عن عامر الشعبي عن النعمان بن بشير كلهم قالوا: نحلاً، إلا إسماعيل بن سالم من بينهم فإنه قال: غلاماً، (فقالت له أمي عمرة بنت رواحة: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشهده).

-والنعمان من صغار الصحابة، وقد توفي رسول الله عليه الصلاة والسلام وعمره ثمان سنوات- فقالت أمه لأبيه: أشهد على ذلك رسول الله عليه السلام.

وتريد بذلك أن تتوثق من هذه العطية لولدها وذلك بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ حتى لا يشاركه أو ينافسه أو يعترض عليه أحد من إخوانه.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ذلك: (ألك ولد سواه؟ قال: نعم، قال: أكلهم نحلتهم مثل هذا؟ قال: لا)، وهذا يدل على أن القاضي أو المفتي عندما يعرض عليه شيء فإنه يستوضح من الأمور التي يمكن أن يبنى عليها الحكم؛ لأن الحكم قد يختلف باختلاف الجواب، فإذا كان ليس له ولد غيره فإن النحلة في محلها؛ لأنه لا منافس له، وإن كان له أولاد سواه فإنه يختلف: فإما أن يسوي بينهم بأن يعطيهم مثل ما أعطاه، أو يسترجع هذا الذي أعطاه؛ حتى يكون عادلاً بينهم.

فهذا فيه دلالة على أنه عند الفتوى والقضاء فإنه يسأل عن الأمور والملابسات التي قد يترتب عليها اختلاف في الحكم؛ لأنه قال: (ألك ولد سواه؟ قال: نعم.

قال: أكلهم أعطيتهم؟ قال: لا)، فعند ذلك نهاه الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر بالعدل بين الأولاد، وقال: (لا تشهدني على جور).

وطلب عمرة رضي الله عنها إشهاد النبي صلى الله عليه وسلم كأنها تريد أن تستوثق من هذا الذي حصل؛ لكي يصير ملكاً محققاً بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم وموافقته على ذلك.

وقد ذكر المصنف هنا عدة أشخاص يروون عن الشعبي، وقد اختلفوا في الألفاظ التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعض هؤلاء الذين روو عن الشعبي قالوا: (هذا جور)، وقال بعضهم: (هذا تلجئة)، ومعناه: إضافة المال إلى شخص وتخصيصه به، (فأشهد على هذا غيري).

وقال مغيرة في حديثه: (أليس يسرك أن يكونوا لك في البر واللطف سواء؟).

قوله: (أشهد على هذا غيري) فيه تهديد وليس إذناً، فليس معناه: أنا لا أشهد ولكن غيري يشهد، وإنما هو مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، فقوله: (اصنع ما شئت) ليس أمراً وإرشاداً بأن يصنع ذلك، ولكنه تهديد، فكذلك قوله هنا: (أشهد على هذا غيري)، فهو حرام لا يجوز ولا ينفذ بل يرجع، ومثل هذا قوله عز وجل: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:٢٩]، فليس في الآية تخيير؛ لأنه تعالى قال بعد ذلك: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:٢٩].

وذكر مجالد في حديثه: (إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم كما أن لك عليهم من الحق أن يبروك)].

يعني: عليه لهم العدل وعليهم له البر، فكما أنه يحب أن يكونوا بارين به فعليه أن يكون عادلاً بينهم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>