للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

شرح حديث (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب العلم.

باب الحث على طلب العلم.

حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا عبد الله بن داود سمعت عاصم بن رجاء بن حيوة يحدث عن داود بن جميل عن كثير بن قيس أنه قال: كنت جالساً مع أبي الدرداء رضي الله عنه في مسجد دمشق، فجاءه رجل فقال: يا أبا الدرداء! إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ما جئت لحاجة، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)].

أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: كتاب العلم، والعلم الذي يأتي مدحه والثناء عليه في الكتاب والسنة، وكذلك العلماء الذي يأتي الثناء عليهم في الكتاب والسنة، المقصود بذلك: العلم الشرعي، وعلماء الشريعة، والعلم الشرعي هو: علم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه سلف هذه الأمة، هذا هو العلم المحمود الممدوح الذي أُثني عليه وعلى أهله في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

وقد بدأ أبو داود في هذا بباب الحث على طلب العلم، يعني: الترغيب فيه، وأورد فيه حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وهو مشتمل على خمس جمل، وكل جملة من هذه الجمل الخمس تدل على فضل العلم الشرعي وفضل أهله.

أول هذه الجمل قوله: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة) وهذا فيه أن الجزاء من جنس العمل، فكما أن الإنسان سلك طريقاً للعلم فجزاؤه أنه يُسهل له طريق الجنة، والجزاء من جنس العمل، فالعمل هو: سلوك طريق يوصل إلى العلم، والجزاء هو: تسهيل وتيسير طريق يوصل إلى الجنة، فهذا يدل على فضل العلم، وأن شأنه عظيم، وفضله كبير، وأن من سلك الطريقة الموصلة إلى العلم فإنه يجازى على ذلك بأن ييسر له الطريق والسبيل التي توصله إلى الجنة، هذه هي الجملة الأولى من الجمل الخمس.

الجملة الثانية: (وإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم)، ووضع أجنحة الملائكة لطالب العلم قيل: هو كونها تتواضع له وتخضع، وتحرص على أن تحيط وتحضر تلك المجالس الخيرة الطيبة، فإن المجالس التي تحضرها الملائكة هي مجالس العلم.

وقيل: معنى وضع أجنحتها: أنها تنتهي من طيرانها وسيرها وتقف عنده، وتحضر ذلك المجلس الذي هو مجلس الذكر ومجلس العلم، وهذا يدل على فضل العلم، وفضل أهله، وفضل مجالس العلم.

الجملة الثالثة: (وإن العالم يستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء) وهذا شيء عظيم، فكون هذه المخلوقات الكثيرة العلوية والسفلية، السماء بما فيها من ملائكة، والأرض وما فيها من دواب وحيوانات في البر والبحر؛ كلها تستغفر لطالب العلم، هذا شيء عظيم! فهذا شأن العوالم الكثيرة والخلائق الكثيرة في السماوات وفي الأرض مع طالب العلم، حيث تستغفر له وتدعو له، وهذا شرف عظيم.

والسماء فيها ملائكة لا يحصيهم إلا الله عز وجل؛ فإن البيت المعمور -وهو في السماء السابعة محاذ للكعبة ولو سقط لسقط عليها- يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة، ومن دخله لا يعود إليه مرة أخرى، وهذا يدل على كثرتهم، وأنهم خلق كثير، وكل هؤلاء يستغفرون لطالب العلم، ويدعون لطالب العلم! فهذا شرف وفضل كبير من الله سبحانه وتعالى للمشتغل بعلم الشريعة علم الكتاب والسنة، علم (قال الله وقال رسوله وقال الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم).

وقيل: إن هذه الدواب تستغفر لطالب العلم؛ لأنه يشتغل بشيء يعود عليها نفعه، ويعود عليها فائدته؛ وذلك أن العلم الشرعي فيه الرفق بهذه الحيوانات وهذه الدواب، وكذلك الحث على الإنفاق عليها ممن يكون مالكاً لها، فيصل إليها نفع العالم ونفع طالب العلم؛ لأنه يظهر الشيء الذي يعم نفعه حتى يصل إلى هذه الدواب، وهذه المخلوقات.

الجملة الرابعة: (وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) يعني: كفضل القمر في وقت الإبدار الذي هو ليلة أربع عشرة، وخمس عشرة، والكواكب لها ضوء ولكنه ضعيف أمام ضوء القمر، فالفرق بين العالم والعابد أن العالم شأنه كشأن القمر، والعابد شأنه كشأن الكواكب، وذلك أن العابد نفعه مقصور عليه لا يتعداه إلى غيره، فالذي يصلي ويكثر من الصلاة فصلاته له، ولا أحد يشاركه في صلاته، لكن الذي يشتغل بالعلم ويتعلم ويعلم ويرشد ويوجه ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فعلمه له ولغيره، فالصلاة للمصلي وحده، والعلم لصاحب العلم ولغير صاحب العلم، فنفعه متعدٍ، فالصلاة أو العبادة نفعها قاصر على صاحبها؛ ولهذا كان فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب.

الجملة الخامسة: (وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر) فشرف عظيم للعلماء أن يقال: إنهم ورثة الأنبياء، وأن يوصفوا بأنهم وارثو الأنبياء، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يورث عنهم المال، ولم يرسلوا لجمع المال، وتركه لأقاربهم الوارثين، بل المال لا يورث عنهم، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركناه صدقة).

إذاً: فميراثهم واسع ومبذول لكل أحد، وليس للأقارب دون غيرهم، ولا لأحد دون أحد، وإنما هو لكل أحد مبذول، ومن أراد أن يحصل العلم فالباب مفتوح، والطريق سالك، فما عليه إلا أن يقدم ويحرص على أن يحصل على نصيب من هذا الميراث الذي هو ميراث النبوة؛ ولهذا كان العلماء ورثة الأنبياء؛ لأن الأنبياء جاءوا بالعلم النافع، والعلماء هم الذين يرثونهم ويتلقون ذلك الميراث، ويحافظون عليه، ويعنون به، وينشرونه ويبذلونه ويعملون بما فيه، ويدعون الناس إلى العمل بما فيه، هذا هو شأن العلماء.

إذاً: فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس ميراثهم لأقاربهم، وإنما هو عام لكل أحد؛ لأن المال لا يورث عنهم، وإنما يورث عنهم العلم، ويورث عنهم الحق والهدى، هذا هو ميراثهم، وهو مبذول لكل أحد، وبابه مفتوح لكل أحد، ولا يختص به أحد دون أحد، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وانما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر).

والحاصل: أن هذا حديث عظيم اشتمل على خمس جمل كل واحدة منها تدل على فضل العلم وأهل العلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>