[شرح حديث (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بـ (والطور) في المغرب)]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بـ {وَالطُّورِ}[الطور:١] في المغرب)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث جبير بن مطعم النوفلي رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور في المغرب) أي: يقرأ بسورة الطور في المغرب، وهي من طوال المفصل؛ لأن المفصل يبدأ بـ (ق) أو بالحجرات إلى آخر القرآن، على قولين، ومبنى هذين القولين على اعتبار بدء العدد من الفاتحة أو من البقرة، أي: تحزيب القرآن، فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزبون القرآن سبعة أحزاب، بحيث يقرأ الواحد منهم حزباً في اليوم، فيكمل القرآن في سبعة أيام، فكانوا يجعلونه أحزاباً سبعة.
وقد جاء عن أوس بن أوس أنه قال:(سألت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاثاً، وخمساً، وسبعاً، وتسعاً، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل، وأوله (ق)،) فهي إذن سبعة أحزاب.
فعلى القول بأن الفاتحة معدودة في السور الثلاث -وهي: الفاتحة والبقرة وآل عمران- ينتهى الحزب السادس بسورة الفتح، ثم يأتي حزب المفصل وأوله الحجرات، وعلى القول بأن سورة الفاتحة غير محسوبة وإنما العدد للسور الطوال، وهي: البقرة وآل عمران والنساء تكون (ق) هي أول المفصل، فتكون الحجرات هي آخر الثلاث عشرة التي هي نهاية الحزب السادس.
فسورة الطور من طوال المفصل، وجبير بن مطعم النوفلي رضي الله عنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور وكان إذ ذاك مشركاً، ولم يكن قد أسلم بعدُ، وقد جاء عنه في صحيح البخاري أنه قال:(لما بلغ قول الله عز وجل: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ}[الطور:٣٥ - ٣٦] كاد قلبي أن يطير)، وكان ذلك سبباً في إسلامه، وكاد قلبه أن يطير من حسن هذا البيان، ومن هذه البلاغة والفصاحة، وهذا الحديث يدل على أن الكافر إذا تحمل في حال كفره، وأدى في حال إسلامه فإن روايته معتبرة؛ لأن العبرة في حال التأدية بالإسلام، وأما التحمل فسواء كان في حال الكفر، أو في حال الإسلام فإنه لا يضر، فالمهم أن يؤدي ما تحمله في حال إسلامه.
ومثل ذلك -أيضاً- قصة أبي سفيان مع هرقل عظيم الروم، فإن الأشياء التي جرت بينهما، والإخبار عنه عليه الصلاة والسلام بما كانوا يعرفونه عنه من الصفات، كل ذلك حصل في حال كفره، ولكن هذا الذي جرى من المحاورة بينه وبين هرقل أداه بعد إسلامه، ولهذا يذكر العلماء في (علم المصطلح) أن الكافر إذا تحمل في حال كفره، وأدى ذلك في حال إسلامه فالرواية صحيحة، ومثله في ذلك الصغير، فإنه إذا تحمل في حال صغره، وأدى بعد بلوغه فإن روايته معتبرة صحيحة، فالمهم حال الأداء، وأما التحمل فيمكن أن يكون في الصغر، وهناك عدد من صغار الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم حدثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكبر، وقد تحملوا ذلك في حال الصغر، منهم النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه وعن أبيه وعن الصحابة أجمعين، فإنه كان من صغار الصحابة، وقد توفي رسول الله عليه الصلاة والسلام وعمره ثمان سنوات، وقد حدث بأحاديث بلفظ (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهذا لا يكون إلا في حال الصغر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مات وعمره ثمان سنوات، ومما حدث به حديث:(الحلال بين والحرام بين) وهو حديث مشهور متفق على صحته، فإنه قال فيه:(سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فـ النعمان تحمله في حال صغره.
فالحديث الذي معنا -وهو حديث جبير بن مطعم النوفلي رضي الله عنه- يدل على أن الكافر إذا تحمل في حال كفره، وأدى في حال إسلامه فذلك صحيح؛ لأن العبرة بحال الأداء وليست بحال التحمل.