للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[شرح حديث علي: (المدينة حرام ما بين عائر إلى ثور)]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في تحريم المدينة.

حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال: (ما كتبنا عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا القرآن وما في هذه الصحيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المدينة حرام ما بين عائر إلى ثور، فمن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه عدل ولا صرف، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه عدل ولا صرف ومن والى قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه عدل ولا صرف)].

أورد أبو داود رحمه الله [باب: تحريم المدينة] المدينة حرام كما أن مكة حرام، ولا يوجد في الأرض أماكن محرمة توصف بهذا الوصف لا يصاد صيدها ولا يقطع شجرها إلا مكة والمدينة، وإبراهيم حرم مكة والنبي صلى الله عليه وسلم حرم المدينة، والمقصود من ذلك إظهار الحرمة، فإن إبراهيم أظهر حرمة مكة والتحريم إنما هو من الله، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أظهر حرمة المدينة والتحريم إنما هو من الله، وإضافة التحريم إلى إبراهيم لمكة؛ لأنه هو الذي أظهر حرمتها، وإضافة التحريم إلى النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة؛ لأنه هو الذي أظهر حرمتها، والله هو الذي أوحى إليه بحرمتها.

إذاً: مكة والمدينة هما الحرمان، وليس هناك أماكن أخرى محرمة، وما شاع على ألسنة بعض الناس من قولهم عن المسجد الأقصى: ثالث الحرمين لا يصح، وهذا إطلاق غير صحيح؛ لأن الحرمين ليس لهما ثالث، ومكة حرم والمدينة حرم، ومن جملة مكة المسجد الحرام، ومن جملة المدينة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.

إذاً: ليس هناك أماكن أخرى يقال لها: حرم إلا مكة والمدينة، فإنهما حرام وهما حرم، وقول بعض الناس: ثالث الحرمين لا يصلح ولا يستقيم، وإنما يقال: ثالث المساجد المقدسة، أي: المساجد المقدسة الثلاثة التي هي مساجد الأنبياء هو ثالثها، أما كونه ثالث الحرمين فهذا لا يستقيم؛ لأنه ليس هناك حرم ثالث، وإنما الحرم حرمان هما مكة والمدينة.

والمدينة لا يقطع منها الشجر ولا يصاد الصيد، ومن دخلها يكون آمناً؛ لأنه في حرم.

أورد أبو داود حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: [(ما كتبنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا القرآن وإلا ما في هذه الصحيفة)] والصحيفة من جملة ما فيها: [(المدينة حرام من عائر إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه عدل ولا صرف، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه عدل ولا صرف ومن والى قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه عدل ولا صرف)].

هذا من الأدلة على جواز كتابة العلم، وأن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يكتبون العلم، ومن الأدلة الدالة على ذلك كون علي رضي الله عنه كان عنده كتاب اشتمل على عدة مسائل من الحديث ومن العلم، ومما اشتملت عليه هذه الصحيفة ما جاء في هذا الحديث.

والمقصود منه أن المدينة حرام من عائر إلى ثور.

(عائر) هو عير، وهو ثور جبلان في المدينة، عير في جنوبها وثور جبل صغير شمال جبل أحد، هذا حد المدينة من جهة الجنوب والشمال، من الجنوب عير ومن الشمال ثور.

وكونها حرماً أو حراماً أي: لا يقطع شجرها ولا يصاد صيدها، ولهذا جاءت الأحاديث في النهي عن ذلك، ومنها ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (لو رأيت الظباء ترتع في المدينة ما ذعرتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ما بين لابتيها) فلا يزعج الصيد ولا ينفر، ومن باب أولى لا يقتل، وكذلك لا يقطع الشجر الذي ينبته الله، أما الشجر الذي ينبته الناس ويزرعه الناس فإنهم يحصدون زروعهم ويقطعون نباتهم الذي ينبتونه ويحتاجون إليه.

قوله: [(فمن أحدث فيها حدثاً)] يعني: من أتى بأمر محدث لم يكن من الدين، ولذلك جاء في الحديث: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).

قوله: [(أو آوى محدثاً)] يعني: من آوى مَنْ أتى ببدع وأحدث في دين الله ما ليس منه، فإن المحدث والمؤوي له عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

قوله: [(فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)] هذا دعاء، وفيه بيان خطورة هذا الأمر، وأنه أمر فضيع وأمر خطير وعظيم.

قوله: [(وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم)] يعني: أنه إذا حصل الأمان من أحد من المؤمنين لشخص من الكفار، فإنه يعطى الأمان، ولو كان ذلك الذي أعطاه من أدنى الناس كالعبد، وكذلك النساء أيضاً لهن أن يؤمنَّ، كما في قصة علي بن أبي طالب مع أم هانئ في عام فتح مكة وفيها: (أن أم هاني جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: إنني أمنت فلاناً وإن علياً قال: إنه لا يتركه، فالنبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم قال: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ).

قوله: [(فمن أخفر مسلماً)] يعني: نقض عهده، أو حصل منه نقض العهد وعدم تمكينه من الشيء الذي التزم به.

قوله: [(فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه عدل ولا صرف)] العدل قيل: هو الفريضة، والصرف: هو النافلة.

قوله: [(ومن تولى قوماً بغير إذن مواليه)] أي: إذا ادعى العبد أنه مولى لغير من أعتقه فإنه متوعد بهذا الوعيد الشديد؛ لأن الولاء إنما يكون لمن أعتق ولا يكون لغير المعتق، والولاء لا يتصرف فيه ببيع أو هبة أو ما إلى ذلك؛ لأنه شيء ثابت وشيء لازم.

قوله: [(بغير إذن مواليه)] هذا ليس له مفهوم؛ لأن لا يصير مولى بالإذن؛ لأن الولاء لا يورث ولا يوهب ولا يباع، وليس لهم أن يأذنوا بأن الولاء يكون لفلان أو أن الولاء ليس لهم، بل هذا شيء لهم وهو كالنسب لا يباع ولا يوهب، وهو شيء ثابت ومستقر لمن وجدت منه نعمة العتق.

إذاً: فالموالاة ثابتة بين العتيق والمعتق، بين المنعم والمنعم عليه، المنعم الذي هو المعتق، والمنعم عليه الذي هو العتيق، فهذا شيء ثابت ومستقر مثل ثبوت النسب واستقرار النسب، ولهذا جاء في الحديث: (الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يورث).

<<  <  ج:
ص:  >  >>