للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[شرح حديث أبي سعيد في الهجرة وسكنى البدو]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الجهاد.

باب ما جاء في الهجرة وسكنى البدو.

حدثنا مؤمل بن الفضل، حدثنا الوليد -يعني ابن مسلم - عن الأوزاعي، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فقال: ويحك! إن شأن الهجرة شديد، فهل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فهل تؤدي صدقتها؟ قال: نعم، قال: فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئاً)].

الجهاد: مأخوذ في اللغة من الجهد والمشقة، وذلك لأن فيه مشقة احتمال ذهاب النفس، وذهاب المال، فإن لم يحصل ذهاب فيحتمل حصول نقص في الخلقة، بأن يحصل له عيب بسبب الجهاد في سبيل الله عز وجل.

والشاعر يقول: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال أي: وليس كل الناس يصبرون على القتل، وذلك خشية الموت، ولا على البذل والإعطاء، وذلك خشية الفقر.

وفي الشرع: هو بذل الجهد في قتال العدو، ويكون فرض عين ويكون فرض كفاية، فيكون فرض عين حيث يختار من أهل البلاد أعداد يوجهون للغزو والجهاد في سبيل الله، وكذلك يكون فرض عين إذا استنفر أهل البلد أو داهمهم العدو.

وأما إذا لم يكن هناك ما يقتضي أن يكون فرض عين فإنه يكون فرض كفاية، بمعنى أنه يختار من الناس أناس أو جماعة من بعض البلاد دون بعضها ليقوموا بالجهاد في سبيل الله، ويذهبوا إلى بلاد الكفار يدعونهم إلى الدخول في الإسلام، أو أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وقد أورد أبو داود رحمه الله هذا الباب: باب ما جاء في الهجرة وسكنى البدو.

فالهجرة: هي الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة، وهاجر أصحابه معه، وصارت المدينة فيها المهاجرون الذين جاءوا إلى المدينة من مكة ومن غيرها لصحبة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ونصرته، والأنصار الذين استقبلوه وآووه وأيدوه ونصروه، فكان المهاجرون أفضل من الأنصار؛ لأنهم جمعوا بين الهجرة والنصرة، وأما الأنصار فكانت عندهم النصرة فقط، والله تعالى وصف المهاجرين بالهجرة والنصرة بقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:٨].

أورد المصنف حديث أبي سعيد الخدري: (أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن الهجرة، فقال: ويحك، إن شأن الهجرة شديد) (ويحك) كلمة تقال لمن وقع في شيء يشفق عليه منه وليس مذموماً، بخلاف (ويلك) فإنها تقال لإنسان وقع في محذور، وهذا الأعرابي لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الهجرة ما أمره بأن يبقى ولكنه سأله: (هل لك من إبل؟ قال: نعم.

قال: هل تؤدي صدقتها قال: نعم، قال: فاعمل من رواء البحار) يعني: اعمل الأعمال الصالحة وكن مع إبلك من وراء البحار [(ولن يترك الله من عملك شيئاً)] أي: لن ينقصك من عملك شيئاً.

قوله: [(من وراء البحار)] يعني: من وراء المدن والقرى؛ لأن البحار يراد بها المدن والقرى، والبحرة هي البلدة أو القرية.

قوله: [(وكن مع إبلك)] لعل النبي صلى الله عليه وسلم خشي عليه ألا يستمر في هجرته، وأن يقطعها لاسيما وعنده إبل يكون متعلقاً بها، فقد يحصل له رجوع عن هجرته ويحصل له ترك لهجرته، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشده إلى أن يبقى مع إبله، وأن يعبد الله عز وجل، ولا ينقصه الله عز وجل من عمله شيئاً، وأما إذا كان الإنسان ليس عنده ما يشغله، وهو في البلد الذي هو فيه لا يستطيع أن يؤدي شعائر دينه، فإن عليه أن ينتقل، وأما إذا كان بقاؤه بالبلد الذي فيه كفار فيه مصلحة وفيه فائدة من ناحية أنه يدعو إلى الله عز وجل، وهو متمكن من دينه ويقوم بشعائر دينه، وليس عليه محذور في ذلك، فقد يكون من الأصلح والأوفق له أن يبقى لهذا الغرض ولهذه المهمة العظيمة، وإذا لم يستطع القيام بشعائر دينه، فإن عليه أن ينتقل من ذلك البلد إلى بلد يستطيع أن يقوم فيه بشعائر دينه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>