قوله تعالى:((لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) هو مما يستدل به أهل البدع الذين ينفون الرؤية عن الله مطلقاً في الدنيا والآخرة، وهم المعتزلة والخوارج والجهمية وغيرهم من المبتدعة الذين يأخذون المتشابه ويتركون المحكم، ومن المحكم قوله:{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:٢٣]، فإنه دليل صريح على إثبات الرؤية.
وكذلك يستدلون بقول الله عز وجل:{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي}[الأعراف:١٤٣])) [الأعراف:١٤٣].
فموسى لما سمع كلام الله اشتاق إلى رؤيته، وطمع فيها فسألها، فقال له الله:((لَنْ تَرَانِي)) أي: في الدنيا، وموسى عليه الصلاة والسلام ما سأل الله أمراً مستحيلاً لا يتصور حصوله، ومن المستحيل أن يكون موسى عليه الصلاة والسلام لا يعلم أن رؤيته تعالى مستحيلة ثم يسألها، وإنما سأل أمراً ممكناً وليس مستحيلاً، ولكن منعه الله مما سأل لكونه عز وجل شاء ألا يرى إلا في الدار الآخرة.
وأيضاً: أبصار الناس في هذه الحياة ليس عندها القدرة أمام تجلي الله عز وجل والنظر إليه، ولو أراد عز وجل لأعطاهم من القدرة في الدنيا ما يتمكنون به من رؤيته؛ ولهذا يعطيهم القدرة في الدار الآخرة.
ثم أيضاً علق ذلك على استقرار الجبل مكانه أمام تجلي الله عز وجل، ولكنه اندك، وإذا اندك الجبل مع صلابته وقوته ولم يثبت أمام تجلي الله عز وجل، فالإنسان الذي هو من لحم ودم وعظام أولى ألا يثبت، قال تعالى:{لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}[الأعراف:١٤٣]، وعلى هذا فإن الآية لا تدل على نفي الرؤية عن الله عز وجل مطلقاً، وإنما تدل على النفي في الدنيا، وأما بالنسبة للآخرة فهي ثابتة بالآيات الواضحة الجلية، وبالأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد بلغ عدد الصحابة الذين رووها عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ما يقرب من ثلاثين صحابياً، وقد أورد ذلك ابن القيم رحمه الله في كتابه ((حادي الأرواح)) وذكر أسماء الصحابة أولاً، ثم سرد أحاديثهم.