قال المصنف رحمه الله تعالى:[باب: تخفيف الأُخْرَيين.
حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، عن محمد بن عبيد الله أبي عون، عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما أنه قال: [قال عمر لـ سعد رضي الله عنهما: قد شكاك الناس في كل شيء حتى في الصلاة! قال: أما أنا فأمد في الأوليين، وأحذف في الأخريين، ولا آلو ما اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: ذاك الظن بك].
أورد أبو داود رحمه الله [باب تخفيف الأخريين]، فكما أن الأوليين تطولان فإن الأخريين تخففان، والأخريان هما الركعتان الأخيرتان من الظهر والعصر والعشاء، ومثلهما الركعة الأخيرة من المغرب، فالتخفيف يكون في الأخريين في الصلاة الرباعية، وفي الثالثة في الصلاة الثلاثية كما في المغرب، وتخفف وتسر فيها القراءة بالنسبة للصلاة الجهرية، كالركعتين الأخيرتين من العشاء، والركعة الأخيرة بالنسبة للمغرب، فحكم هذه الركعات الإسرار والاختصار، أن يسر بها وأن تختصر وتخفف، ولا تطول كما تطول الركعتان الأوليان.
وقد أورد أبو داود رحمه الله عدة أحاديث، منها حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه وأرضاه أنه لما أمره عمر على الكوفة مكث بها مدة، فحصل بينه وبين بعض أهلها شيء حتى تكلموا فيه، وقدحوا فيه وسبوه، حتى بلغ بهم الحد -والعياذ بالله- أنهم قالوا:(لا يحسن أن يصلي!!) وهذا الكلام قالوه في رجل يمشي على الأرض وهو من أهل الجنة، في رجل من العشرة المبشرين بالجنة، ومع ذلك لم يسلم من أذاهم.
فلما بلغ عمر رضي الله عنه وأرضاه شكواهم، وأنهم قالوا عنه:(لا يحسن أن يصلي) كلم سعداً في ذلك، فأخبره سعد أنه كان يصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يمد القراءة في الأوليين ويطيلهما، ويحذف في الأخريين، أي: يقصر القراءة فيهما، وقال: إنه لا يألوا -أي: لا يقصر- فيما اتبع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن هذا الفعل الذي يفعله إنما هو اقتداء برسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال له عمر رضي الله عنه:(هذا هو الظن بك يا أبا إسحاق) كما في صحيح البخاري، فكنية سعد أبو إسحاق، فرضي الله عن سعد بن أبي وقاص وأرضاه.
وبلغ بهم الحد إلى أن قال واحد منهم - لما أرسل عمر يسأل عما شكوه به-: (أما إنه لا يحكم في القضية، ولا يعدل بالسوية) فدعا عليه سعد -وكان مجاب الدعوة كما في صحيح البخاري - فقال:(اللهم إن كان كاذباً فيما يقول فأطل عمره، وأكثر فقره، وعرضه للفتن) فطال عمره، وكثر فقره، ونزل حاجباه على عينيه، وكان يلاحق النساء فتنة وابتلاء وامتحاناً، فأصابته دعوة سعد، وقال عن نفسه:(أصابتني دعوة سعد) رضي الله عن سعد وعن الصحابة أجمعين.
ولكن عمر رضي الله عنه وأرضاه رأى من المصلحة أن يعزل سعداً عن الكوفة ما دام أن الأمر قد وصل إلى هذا الحد خشية أن يحصل له شيء لا يحمد عقباه، ولم ينس أن ينبه على ذلك رضي الله عنه وأرضاه، فإنه لما اختار ستة -بعدما طعن- ليكونوا أهل الشورى فيختاروا خليفة منهم كان سعد واحداً من هؤلاء الستة، فخشي عمر أن يقول قائل: لقد نسي عمر، فكيف يعزله من الكوفة وهي قرية ثم يرشحه للخلافة؟ فأراد أن يبين أنه لم ينس، وأنه ما زال ذاكراً للذي حصل منه من عزل سعد، فقال رضي الله عنه وأرضاه:(إن أصابت الإمارة سعداً فذاك، هو أهل لها، وإن لم تصبه فليستعن به من أُمرَّ، فإنني لم أعزله من عجز ولا خيانة) فمسوغات العزل: العجز والخيانة، وإنما كان عزله لمصلحة، وهي: أن لا يعتدي عليه أحد، أو يحصل له ضرر لا تحمد عقباه من هؤلاء السفهاء الذين بلغ بهم الحد إلى أن قالوا فيه ما قالوا، فهو رجل يمشي على الأرض وهو من أهل الجنة رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
ومحل الشاهد من إيراد هذا الحديث هو قوله:[وأحذف في الأخريين] أي أنه يخفف القراءة في الركعتين الأخريين، فيقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب وشيء من القرآن غير الفاتحة، وهو دون ما يقرأ به في الركعتين الأوليين، وقد جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.