[شرح حديث (اللهم اهدني فيمن هديت)]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب القنوت في الوتر.
حدثنا قتيبة بن سعيد وأحمد بن جواس الحنفي قالا: حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء قال: قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر، قال ابن جواس: في قنوت الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب القنوت في الوتر.
والمراد به الدعاء في الوتر، فهذا هو المراد بالقنوت، والقنوت يكون في الوتر، يعني: في صلاة الليل في آخرها الذي هو آخر ركعة من الركعات التي تختم بها صلاة الليل، ويكون في الصلوات ولكن في النوازل، وسيأتي عند أبي داود رحمه الله تعالى ما يتعلق بالقنوت في الصلوات، والكلام هنا إنما هو في القنوت الذي هو الدعاء في الوتر.
والقنوت يطلق على عدة معانٍ ومنها: الدعاء، كما أنه يطلق على القيام، وعلى السكوت، وعلى معانٍ كثيرة.
وأورد أبو داود رحمه الله حديث الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما الذي يقول فيه: إن النبي صلى الله عليه وسلم علمه كلمات يقولهن في الوتر، وفي بعض الروايات: (قنوت الوتر)، وهي رواية أحد شيخي أبي داود وهو ابن جواس فقال: في قنوت الوتر.
أي: في دعاء الوتر، وهذه الكلمات هي: (اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت) إلى آخر الدعاء، الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم سبطه الحسن بن علي ليدعو به في وتره.
فهذا يدلنا على مشروعية الدعاء في الوتر، وأن هذا الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم هو أولى ما يقال، وخير ما يقال؛ لأنه تعليم الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.
وهو دعاء عظيم مشتمل على دعاء لله عز وجل، وسؤال منه أموراً عظيمة، ومطالب كبيرة، ومشتمل على ثناء على الله عز وجل في آخره.
قوله: [(اللهم اهدني فيمن هديت)] (اللهم) معناه: يا ألله، فحذفت ياء النداء وعوض عنها الميم المشددة في الآخر بعد لفظ الجلالة، ولهذا يقولون: لا يجمع بين العوض والمعوض، فلا يقال: يا اللهم؛ لأن الميم المشددة عوضاً عن ياء، فلا يجمع بينها إلا في ضرورة الشعر، كما يقول ابن مالك رحمه الله تعالى في الألفية: والأكثر اللهم بالتعويض وشذ يا اللهم في قريض يعني: في الشعر، والأكثر (اللهم) بالتعويض دون الياء؛ لأنه حصل التعويض عن ياء النداء بالميم المشددة بعد الله.
(اللهم اهدني فيمن هديت) سؤال الهداية هو أعظم المطالب، ولهذا جاء في سورة الفاتحة اشتمالها على طلب الهداية إلى الصراط المستقيم في كل ركعة من ركعات الصلاة، يسأل الإنسان ربه الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو أعظم وخير مطلوب.
وطلب الهداية من الله عز وجل يشتمل على أمرين: على التثبيت على ما هو حاصل من الهداية، وعلى طلب المزيد من الهداية، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:١٧].
(اللهم اهدني فيمن هديت) أي: اهدني واجعلني من المهديين في جملة من هديتهم، كما ذكر الله عن نبيه سليمان عليه الصلاة والسلام حيث قال: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:١٩] يعني: في جملة عبادك الصالحين.
قوله: [(وعافني فيمن عافيت)].
طلب المعافاة، وهي الوقاية من كل سوء ومن كل شر، في جملة من عافيته، وحصل له منك المعافاة.
قوله: [(وتولني فيمن توليت)].
يعني: فيمن كنت وليه وموفقه ومسدده.
قوله: [(وبارك لي فيما أعطيت)].
يعني: أنزل البركة واجعلها فيما أعطيتني إياه من كل خير، ومن كل شيء سار، ومن كل ما هو نافع، سواء كان صحة وعافية، أو مالاً، أو علماً، أو ولداً، أو هدىً، كل ما أعطاه الله إياه يسأله أن يبارك له فيه، وأن يجعل فيه البركة.
قوله: [(وقني برحمتك شر ما قضيت)].
يعني: يسأله أن يقيه من الشرور والأخطار، ومن الأضرار التي تنزل، وكل ذلك نراه بقضاء الله وقدره، السبب والمسبب كله بقضاء الله وقدره، ولهذا جاء في الحديث: (ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر)، ومعنى قوله: (لا يرد القدر إلا الدعاء) ليس معنى ذلك أن الذي كتب في اللوح المحفوظ يغير ويبدل؛ لأن كل ما كتب في اللوح المحفوظ فإنه لابد من وقوعه، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:٢٢]، {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:٥١]، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:٤٩] فكل شيء مقدر لابد من وقوعه، ولكن الله عز وجل قدر الأسباب والمسببات، فجعل أن الإنسان يحصل له شر، ولكنه قدر سبباً يمنعه من ذلك الشر، فقدر السبب وقدر المسبب، فليس معنى ذلك أن الإنسان كتب عليه مصائب ثم ترفع، ولكن الله قدر أن تكون مصائب ولكنها ترفع بالدعاء، فالسبب مقدر، والمسبب مقدر.
وكذلك صلة الرحم تزيد في العمر، وليس معنى ذلك: أن الإنسان له عمر محدد، وأنه يغير الأجل الذي كتبه الله فيكون الإنسان غيّر الأجل بسبب أنه وصل رحمه، بل الله عز وجل قدر أنه يطول عمره، وقدر أن يكون ذلك بسبب فعل يحصل وهو البر وصلة الرحم، يعني: قدر السبب والمسبب، فالسبب مقدر، والمسبب مقدر، المقصود من الحديث (ولا يرد القدر إلا الدعاء) يعني: أن الله تعالى قدر السبب والمسبب، وجعل المسبب يسلم منه ويتخلص منه بحصول السبب الذي قدره الله وقضاه، والذي شاءه الله وأراده، أي: أن كلاً من السبب والمسبب قد شاءه الله وأراده، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
قوله: [(فإنك تقضي ولا يقضى عليك)].
الله تعالى يقضي كوناً وقدراً، ويقضي شرعاً وديناً، ولا راد لقضائه وقدره، ولا راد لحكمه وتشريعه سبحانه وتعالى.
قوله: [(وإنه لا يذل من واليت)].
يعني: من والاه الله عز وجل فإن له العزة، وليست له الذلة.
قوله: [(ولا يعز من عاديت)].
يعني: من كان عدواً لله فإنه لا يعز، وليس له العزة الحقيقية، وإن وجد شيء من حصول حظوظ دنيوية أو حصول شيء من الغلبة، إلا أن هذا ليس أمراً حقيقياً، بل العز الحقيقي هو عز الطاعة، والعز من الله عز وجل بالطاعة، وما يترتب على الطاعة.
قوله: [(تباركت ربنا وتعاليت)].
هذه لا تقال إلا لله سبحانه وتعالى، فهو الذي تبارك، وهو الذي تعالى، وكل بركة فهي منه سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى هو المِبارك وعبده المُبَارك، والبركة من الله عز وجل، وهو الذي تبارك، وهو الذي تعالى فلا يقال لغيره: تبارك، ولا يقال لغيره: تعالى.
(اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني برحمتك شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، فإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت) تسع جمل جاءت في هذا الحديث الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم سبطه الحسن بن علي، وأوله دعاء، وآخره ثناء؛ لأن (اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني برحمتك شر ما قضيت) هذه الخمس كلها دعاء، (فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت) هذا ثناء، خمس جمل دعاء، وأربع جمل في الآخر هي ثناء على الله سبحانه وتعالى.