للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[شرح حديث أبي هريرة في محاجة آدم وموسى]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا سفيان، ح: وحدثنا أحمد بن صالح المعنى حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار سمع طاوساً يقول: سمعت أبا هريرة يخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (احتج آدم وموسى، قال موسى: يا آدم! أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة! فقال آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده، تلومني على أمر قدره علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ فحج آدم موسى).

قال أحمد بن صالح عن عمرو عن طاوس سمع أبا هريرة].

أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه في محاجة آدم وموسى عليهما الصلاة والسلام.

ومن المعلوم أن القدر لا يجوز الاحتجاج به على ترك أمر، ولا على فعل نهي، فالإنسان إذا حصلت منه معصية بأن ترك مأموراً وعوتب على ذلك فلا ينفعه أن يقول: هذا شيء مقدر، وكذلك إذا قيل له: لماذا زنيت؟ لا ينفعه أن يقول: هذا شيء مقدر، بل يعاقب العقوبة التي يستحقها ويقال: أذنبت ذنباً وهو مقدر وهذه عقوبتك وهي مقدرة، وكل شيء بقضاء وقدر.

وهذا الحديث فيه المحاجة بين آدم وموسى عليهما الصلاة والسلام وأن موسى قال لآدم ما قال، وأجابه آدم بأن هذا شيء قد كتبه الله عليه قبل أن يخلق، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (فحج آدم موسى)، يعني: غلبه بالحجة.

ففي الحديث أن آدم احتج بالقدر على المعصية، وقد أجيب عن هذا الحديث وتوجيهه -مع أنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعاصي- بجوابين: أحدهما ذكره ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو: أن الاحتجاج بالقدر إنما هو على المصيبة التي جاءت نتيجة للذنب، وترتبت على الذنب، وليس على الذنب والمعصية، فهو ما لامه على المعصية، وإنما لامه على الأمر الذي تبع المعصية، وهو المصيبة التي حلت به وبذريته بأن أخرجوا من الجنة، والتي جاءت نتيجة للذنب، قالوا: والقدر يحتج به على المصائب ولا يحتج به على المعائب.

والتوجيه الثاني: وقد ذكره ابن القيم نفسه، قال: وهو أنه إذا كان الإنسان لم يتب من الذنب فإن احتجاجه بالقدر غير صحيح ولا يعتبر؛ لأنه مصر على الذنب وغير تائب منه، وأما إذا كان قد تاب منه فلامه لائم واحتج بالقدر، فعند ذلك يجوز، وفعل آدم عليه الصلاة والسلام هو من هذا القبيل؛ لأنه بعد التوبة.

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله هذين التوجيهين في كتابه شفاء العليل بما يتعلق بالقضاء والقدر، وقد عقد باباً خاصاً لهذا الحديث والكلام عليه، وذكر كلام كثير من الناس، ومنها أقوال باطلة تتعلق بالقضاء والقدر وشرح هذا الحديث وبيان معناه، واختار هذين التوجيهين اللذين أحدهما لشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية والثاني له، وهذا باب من أبواب ثلاثين أوردها في كتابه شفاء العليل.

قوله: [(فقال آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده)].

هذا فيه بيان أن موسى كليم الله، وأن الله تعالى اصطفاه بالكلام، وفيه دليل على أن التوراة هي مما خطه الله عز وجل بيده.

ومعلوم أن الكلام حصل أيضاً لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فهو كليم الرحمن كما أن موسى كليم الرحمن، وإبراهيم خليل الرحمن، ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن، فقد اجتمع فيه صلى الله عليه وسلم ما تفرق في غيره، فالخلة لإبراهيم والكلام لموسى، ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام له الوصفان: الخلة والتكليم.

وقد جاء في الحديث أيضاً أن آدم نبي مكلَّم.

قوله: [(وخط لك التوراة بيده)] لا يدل على أن التوراة مخلوقة؛ لأن كلام الله عز وجل مكتوب في اللوح المحفوظ، ولا يقال: إنه مخلوق؛ لأنه كلام الله الذي تكلم به وكتبه، فلا يقال: إن هذا الكتاب الذي هو من كلامه وخطه بيده يكون مخلوقاً، فكلام الباري غير مخلوق سواء تكلم به أو خطه، وكلام المخلوق مخلوق سواءً تكلم به أو خطه.

ووقعت هذه المحاجة في الحياة البرزخية قبل يوم القيامة، والله أعلم؛ لأنه من المعلوم أن الناس يموج بعضهم في بعض عندما يبعثون من قبورهم ويرى بعضهم بعضاً، ولهذا جاء في حديث الشفاعة أنهم يأتون إلى آدم وموسى وغيرهما يطلبون منهم أن يشفعوا في الانتهاء من الموقف، فالذي يبدو أنه قبل يوم القيامة؛ ومعلوم أن الأنبياء أجسادهم في قبورهم، ولكنهم يلتقون أرواحاً على صور أجسادهم مثل ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، فإنه لقيهم وصلى بهم في بيت المقدس.

قوله: [(قال: تلومني على أمر قدره علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟)].

وهذا كما هو معلوم تقدير آخر غير التقدير الأول الذي قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وابن القيم رحمه الله ذكر عدة تقديرات جاءت بها أحاديث، ومنها تقدير سنوي، وتقدير يومي، وهذا التقدير الذي جاء قبل خلق آدم، وذكر تقديرات أخرى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>