للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[شرح حديث (نعم الرجل خريم الأسدي لولا طول جمته وإسبال إزاره)]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا أبو عامر -يعني: عبد الملك بن عمرو - حدثنا هشام بن سعد عن قيس بن بشر التغلبي أخبرني أبي -وكان جليساً لـ أبي الدرداء - قال: كان بدمشق رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: ابن الحنظلية رضي الله عنه، وكان رجلاً متوحداً قلما يجالس الناس إنما هو في صلاة، فإذا فرغ فإنما هو تسبيح وتكبير حتى يأتي أهله، فمر بنا ونحن عند أبي الدرداء فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك! قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فقدمت، فجاء رجل منهم فجلس في المجلس الذي يجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لرجل إلى جنبه: لو رأيتنا حين التقينا نحن والعدو فحمل فلان فطعن فقال: خذها مني وأنا الغلام الغفاري كيف ترى في قوله؟ قال: ما أراه إلا قد بطل أجره، فسمع بذلك آخر فقال: ما أرى بذلك بأساً، فتنازعا حتى سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سبحان الله! لا بأس أن يؤجر ويحمد، فرأيت أبا الدرداء سر بذلك، وجعل يرفع رأسه إليه ويقول: أنت سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: نعم.

فما زال يعيد عليه حتى إني لأقول: ليبركن على ركبتيه.

قال: فمر بنا يوماً آخر فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك! قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: المنفق على الخيل كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها.

ثم مر بنا يوماً آخر فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك! قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل خريم الأسدي لولا طول جمته وإسبال إزاره.

فبلغ ذلك خريماً فعجل فأخذ شفرة فقطع بها جمته إلى أذنيه، ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه.

ثم مر بنا يوماً آخر فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك! فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنكم قادمون على إخوانكم، فأصلحوا رحالكم وأصلحوا لباسكم حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش.

قال أبو داود: وكذلك قال أبو نعيم عن هشام قال: حتى تكونوا كالشامة في الناس)].

أورد أبو داود حديث رجل من الصحابة، هو سهل بن الحنظلية رضي الله عنه وكان في الشام، وكان رجلاً معتزلاً للناس، وليس كثير المخالطة، وإنما هو مشتغل بالعبادة والذكر والتسبيح والتهليل، فمر يوماً على مجلس فيه أبو الدرداء، فقال أبو الدرداء: (كلمة تنفعنا ولا تضرك) يعني: ذكّرنا بشيء أو حدثنا بشيء ينفعنا ولا يضرك، والكلمة يراد بها الكلام لا يقصد بها كلمة واحدة؛ لأن الكلمة يراد بها الكلمة الواحدة ويراد بها الكلام، كما يقال: فلان ألقى كلمة أو عنده كلمة، أي: كلام، وكذلك جاء في اللغة وفي الحديث، ومنه حديث: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان) وكلمة الإخلاص (لا إله إلا الله)، وهي عدة كلمات، فالكلمة تطلق على الكلمة الواحدة، وتطلق على الكلام، ولهذا يقول ابن مالك في أول الألفية عن الكلام: واحده كلمة والقول عم وكلمة بها كلام قد يؤم أي: الكلمة قد يقصد بها الكلام، وهنا قوله: (كلمة تنفعنا ولا تضرك) يعني: حدثنا بحديث وبكلام ينفعنا ولا يضرك، وليس المقصود منه الكلمة المفردة، وإنما المقصود منه الكلام؛ لأن الكلمة تطلق على الكلام.

وقوله: (تنفعنا ولا تضرك) يعني: نحن نربح وأنت لا تخسر، وفي الحقيقة أن الكلمة منه تنفعهم وتنفعه وليست المسألة فقط مجرد ارتفاع الضرر عنه، بل النفع حاصل؛ لأن الإنسان إذا دل إلى خير وأرشد إلى خير وحدث بخير فإنه ينتفع، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من دعا إلى هدى كان له أجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه إثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً).

والمخالطة مع النفع خير من العزلة، وإذا كانت المخالطة فيها ضرر ولا يترتب من ورائها نفع فالعزلة أفضل.

فالعزلة تكون أفضل باعتبار والمخالطة تكون أفضل باعتبار آخر، فالذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم وينفعهم خير من الذي يعتزلهم ولا يفيدهم شيئاً؛ ولكن إذا لم يحصل منه نفع، لعلة لا تمكنه من النفع، أو كانت الخلطة تؤدي إلى ضرر؛ فعند ذلك تكون العزلة خيراً له.

قوله: [(بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية)].

السرية هي قطعة من الجيش تقتطع وترسل لمهمة ثم تعود، وقيل: إن غايتها إلى أربعمائة شخص، وقد تكون أقل من ذلك، فمن حين خروجها إلى رجوعها يقال لها سرية، فإذا دخلت في الجيش خرجت عن كونها سرية وصارت من ضمن الجيش، وفي جملة الجيش.

فرجعت السرية، وجاء رجل منهم وجلس في المجلس الذي كان يجلس فيه النبي صلى الله عليه وسلم وجلسوا في انتظاره، وكانوا يتحدثون قبل أن يصل صلى الله عليه وسلم، فقال ذلك الرجل الذي جلس لرجل بجواره: (لو رأيتنا حين التقينا نحن والعدو فحمل فلان فطعن وقال: خذها مني وأنا الغلام الغفاري؛ كيف ترى في قوله؟ قال: ما أراه إلا قد بطل أجره) يعني: كونه قال هذا الكلام، لأن فيه سمعة وفيه ثناء على نفسه بالشيء الذي قد حصل منه.

فقال الآخر: (ما أرى بذلك بأساً!) يعني: عكس كلام صاحبه الأول.

فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (سبحان الله! لا بأس أن يؤجر وأن يحمد) يعني: يحصل له هذا وهذا، يحصل الأجر ويحصل الحمد.

قوله: [(فرأيت أبا الدرداء سر بذلك، وجعل يرفع رأسه إليه، ويقول: أنت سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: نعم.

فما زال يعيد عليه حتى إني لأقول: ليبركن على ركبتيه)].

وهذا الذي جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أيد كلام الثاني الذي قال: لا بأس به، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا بأس أن يؤجر ويحمد) أي: أنه يحصل له الأجر ويحصل له الحمد، فسرَّ بذلك أبو الدرداء وصار يردد عليه: (أأنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) حتى قال بشر: (حتى إني لأقول: ليبركن على ركبتيه) يعني: من شدة اهتمامه ومطالبة ذلك الشخص بتأكيد هذا الكلام، وأنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: [(فمر بنا يوماً آخر فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك! قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: المنفق على الخيل كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها)].

أي: أنه مر بهم مرة ثانية فقال له أبو الدرداء مثلما قال في اليوم الأول: (كلمة تنفعنا ولا تضرك! فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المنفق على الخيل كالباسط يده في الصدقة لا يقبضها).

ومعناه: كأنه مستمر في الإنفاق، فالذي ينفق على الخيل أجره مستمر متتابع كثير؛ لأن شأن الخيل في الجهاد عظيم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة)، والإنفاق على الخيل هو في سبيل الله، وهو صدقة جارية مستمرة كشأن الذي يده مبسوطة منفقة ومستمرة بالإنفاق.

قوله: [(ثم مر بنا يوماً آخر فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك! قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل خريم الأسدي لولا طول جمته وإسبال إزاره.

فبلغ ذلك خريماً فعجل فأخذ شفرة فقطع بها جمته إلى أذنيه، ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه)].

مر بهم الثالثة فقال أبو الدرداء الكلمة السابقة نفسها: (كلمة تنفعنا ولا تضرك).

قوله: [(فبلغ ذلك خريماً فعجل فأخذ شفرة فقطع بها جمته إلى أذنيه، ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه) يعني: القطع للشعر والرفع للإزار إلى أنصاف الساقين، وهذا هو محل الشاهد من إيراد الحديث الطويل في هذا الباب.

قوله: [(ثم مر بنا يوماً آخر فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك! فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنكم قادمون على إخوانكم، فأصلحوا رحالكم وأصلحوا لباسكم حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش)].

أي أنه مر بهم في المرة الرابعة فقال له الكلمة نفسها: (كلمة تنفعنا ولا تضرك!) فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم قادمون على إخوانكم) أي: أنهم كانوا في سفر فقال لهم: (إنكم قادمون على إخوانكم، فأصلحوا رحالكم وأصلحوا ثيابكم حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس) والمقصود كالشيء الواضح الجلي في الناس.

[(فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش)].

الفحش: يطلق على الفحش من القول، لكن سياق الكلام عن إصلاح الظاهر بالثياب الحسنة والترجل، وكأنه يطلق على الحالة السيئة والحالة القبيحة غير الجميلة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>