قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا نصر بن علي أخبرنا سفيان عن الزهري ح وحدثنا مسدد حدثنا إسماعيل ح وحدثنا أحمد بن محمد بن شبويه المروزي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أمه رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لم يكذب من نمى بين اثنين ليصلح)، وقال أحمد بن محمد ومسدد:(ليس بالكاذب من أصلح بين الناس فقال خيراً أو نمى خيراً)].
بعد أن بين أبو داود رحمه الله في الحديث السابق عظم إصلاح ذات البين، وما فيه من الفائدة الكبيرة وخطورة بقاء ذات البين على ما هي عليه من الفرقة، وأنها تحلق الدين؛ أتى بهذا الحديث الذي فيه ترخيص الرسول صلى الله عليه وسلم في أن يكذب الإنسان من أجل أن يصلح بين الناس؛ لأن الكذب وإن كان فيه ضرر إلا أن ضرره في هذا الباب مغمور في جانب المصلحة التي تترتب عليه، ولكنه إذا حصل ذلك بالتعريض فإن هذا أولى من التصريح حيث أمكن.
والكذب قد أبيح في الإصلاح بين الناس، ولكنه إذا حصل بالتلويح وبالتعرض دون التصريح لا شك أنه أولى، ولكن هذه المفسدة التي تترتب على الكذب إذا كانت لمصلحة كبيرة فإنها تكون مغمورة في جانب الفوائد الكبيرة التي ترتبت على إصلاح ذات البين وزوال الفرقة، ولكن -كما قلت- إذا حصل المقصود عن طريق التعريض بأن يأتي بكلام يريد به شيئاً وذاك يفهم منه شيئاً آخر فهو أولى، وذلك بأن يأتي إليه مثلاً ويقول: علمت من فلان أنه يحبك ويدعو لك، ويقصد أنه واحد من المسلمين، وهو يحب المسلمين ويدعو للمسلمين، فهو داخل في هذا العموم، وكونه يقول مثل هذا الكلام هو صادق فيه؛ لأن المسلم يحب المسلمين ويدعو لهم، فيأتي بهذا التعريض على اعتبار أنه داخل في هذا العموم، ومثل هذا لا بأس به.
وقد أورد أبو داود حديث أم كلثوم بنت عقبة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يكذب من نمى بين اثنين ليصلح) أي: لم يكذب كذباً يترتب عليه إثم، بل هذا كذب لمصلحة وكذب هو مأجور عليه، ولكنه -كما قلت- إذا حصل بالتعريض فهو أولى.