شرح حديث: (وقت النبي لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قَرَن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المواقيت.
حدثنا القعنبي عن مالك ح وحدثنا أحمد بن يونس حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (وقّت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، وبلغني أنه وقت لأهل اليمن يلملم)].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب في المواقيت، أي: المواقيت المكانية التي إذا جاء الإنسان إلى مكة ماراً بها يريد الحج أو العمرة فإنه لا يتجاوزها حتى يحرم من هذه المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ذو الحليفة لأهل المدينة، والجحفة لأهل الشام، وقرن المنازل لأهل نجد، ويلملم لأهل اليمن، وذات عرق لأهل العراق.
هذه هي المواقيت التي جاءت بها الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي لا يجوز للإنسان أن يتجاوزها إلا وقد أحرم، ويمكن للإنسان وهو في المدينة أن يتهيأ للإحرام وهو في منزله، فيغتسل ويتنظف ويتهيأ ويلبس الإزار والرداء، وإذا جاء الميقات فإنه ينوي ويلبي، فيكون استعداده وتهيئه قبل ذلك في المدينة.
وإذا جاء الميقات فإن نزل وجاء إلى المسجد وصلى فيه، ثم أحرم بعد ذلك، فلا بأس، وإن أراد أن يحرم دون أن ينزل فعندما تكون السيارة في محاذاة مسجد ذي الحليفة، فإنه ينوي ويلبي ولو لم تقف السيارة، ولو لم تنزل إلى المكان الذي فيه المسجد، وإنما يستعد قبل ذلك، ولكن ينوي من الميقات، ويلبي من الميقات.
وكذلك الحال في حق من يريد السفر بالطائرة من المدينة، فإنه يتهيأ وهو في منزله، ويلبس إزاره ورداءه، وإذا وصل إلى المطار وركب الطائرة فإذا تحركت الطائرة للإقلاع فإنه ينوي ويلبي؛ لأنها إذا أقلعت تسير بسرعة، فقد تتجاوز الميقات الذي هو على مقربة من المدينة.
فالحاصل: أن الإحرام والنية تكون من الميقات، الاستعداد يكون قبل ذلك، وكذلك بالنسبة لمن يأتي في الطائرات فإنه يتهيأ ويغتسل ويلبس إزاره ورداءه وهو في بلده، ثم يركب الطائرة وعليه الإزار والرداء، وإذا أقبلت الطائرة على الميقات فإنه ينوي ويلبي، وإذا شك أو خاف أنه لا يعرف أو لا ينبه للميقات ويخشى أن يفوته دون أن يحرم فله أن يحرم قبل ذلك بمسافة ولا بأس بذلك، فالإحرام قبل الميقات يصح، ويصح أيضاً بعد الميقات ولكن فيه مخالفة، فيكون مرتكباً لذنب.
فإذا أحرم قبله صح إحرامه، وصحت نيته، ويلزمه أن يستمر على الإحرام، لكن السنة أن يكون ذلك من الميقات، والمواقيت هي المذكورة في هذه الأحاديث، وهذه المواقيت هي لأهل تلك البلاد ولمن مر على تلك البلاد من غير أهلها.
فمثلاً من كان من أهل اليمن ووصل إلى المدينة وأراد أن يحرم بالحج أو العمرة فإنه يحرم من ميقات المدينة، فمن يريد دخول مكة للحج أو العمرة فإنه يحرم من الميقات الذي مر به، ولو لم يكن من أهل ذلك البلد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن).
والذي يلزمه الإحرام هو من يريد الحج والعمرة، وأما من لا يريد حجاً ولا عمرة، ويريد أن يذهب إلى مكة للتجارة أو للزيارة فإنه لا يلزمه الإحرام وإن مرّ بالميقات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ) أي: من مر عليهن مريداً حجاً وعمرة، فهذا هو الذي يلزمه الإحرام منها ولا يتجاوزها إلا محرماً.
قوله: (ومن كان دون ذلك) أي: دون المواقيت، وذلك مثل أهل جدة، فإنهم يحرمون من جدة، ومثل أهل وداي فاطمة، فإنهم يحرمون من وداي فاطمة، وكذلك الأماكن التي تكون بين الميقات وبين مكة، فإن أهلها يحرمون منها، ولا يتجاوزونها غير محرمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ).
وكذلك لو أن إنساناً ذهب من المدينة لا يريد حجاً ولا عمرة، وعندما كان في الطريق طرأ عليه قصد وإرادة الحج أو العمرة، فيحرم من المكان الذي طرأت فيه تلك الرغبة، وما دام أنه مر بالميقات ولم يكن يرد حجاً ولا عمرة فمروره صحيح، ولكنه لابد أن يحرم من حيث قصد ونوى الحج والعمرة.
ويحرم أهل مكة للحج من مكة، وأما بالنسبة للعمرة فإنهم يخرجون إلى الحل ليحرموا منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما طلبت منه عائشة أن تحرم بعمرة، أمرها أن تخرج إلى أدنى الحل، فخرجت وأحرمت، فيجمع في عمرته بين الحل والحرم، كما أن الحج يجمع فيه بين الحل والحرم.