شرح حديث: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة ح وحدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان المعنى واحد، والإخبار في حديث سفيان عن الأعمش قال: حدثنا زيد بن وهب حدثنا عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه ملك فيؤمر بأربع كلمات: فيكتب رزقه وأجله وعمله، ثم يكتب شقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو قيد ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو قيد ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)].
سبق أن مر جملة من الأحاديث في باب القدر من سنن أبي داود وهذا حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هو من جملة تلك الأحاديث.
فقوله رضي الله عنه: [حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق] هذا ثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدح له بأنه صادق مصدوق صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وهذه الجملة اعتراضية بين قوله: [حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم] وبين الحديث: [(إن خلق أحدكم يجمع)] وقد قيل: إنها جملة حالية، وقال بعض الشراح: إن كونها اعتراضية أولى من كونها جملة حالية؛ لأن معنى الجملة الحالية أنه الصادق المصدوق في حال تحديثه لنا، ولكن إذا كانت جملة اعتراضية فالمعنى أنه متصف بهذا الوصف دائماً وأبداً، وأن هذا شأنه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه دائماً، وليس ذلك مقيداً بحال تحديثه إياهم.
قوله: [(إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً) أي: كل إنسان يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، أي: فيكون نطفة، وهي ماء مهين، فيمكث أربعين يوماً ثم يتحول إلى علقة، أي قطعة صغيرة من اللحم، ثم يتحول إلى مضغة بعد أربعين يوماً أخرى، فيكون على قدر ما يمضغه الآكل، أي يضعه في فمه، والمضغة هي الأكلة التي يضعها الآكل في فمه.
فإذا كملت هذه الأطوار الثلاثة يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويكون عند ذلك مكوناً من جسد وروح، ويكون قد تخلق وصار على هيئة إنسان.
قوله: [(ويؤمر بأربع كلمات: فيكتب رزقه وأجله وعمله، ثم يكتب شقي أو سعيد)] يعني أنه يكتب ما قدر الله عز وجل أن يكون له من رزق، سواءً كان مبسوطاً أو مضيقاً، ويكتب أجله، أي مدة حياته ومتى ينتهي أجله، وكذلك عمله الذي يعمله، وكذلك يكتب أنه شقي أو سعيد، فإما أن يكون من أهل السعادة أو من أهل الشقاوة.
وجاء في بعض الروايات أنه يقول: (ذكر يا رب أو أنثى؟) فيذكر له الحالة التي شاء الله تعالى أن يكون عليها من ذكورة أو أنوثة.
وهذا فيه إثبات القدر، ومعلوم أن التقدير قد حصل في اللوح المحفوظ، وهذا تقدير آخر؛ لأنه قد جاءت أحاديث في ذكر تقديرات أخرى غير التقدير الأول الذي حصل في اللوح المحفوظ، والذي في اللوح المحفوظ هو الأصل وغيره تابع له.
والمرء ينتهي إلى ما قدر له من السعادة أو الشقاوة، فيموت على ذلك، والعبرة بما مات عليه، وما قبل ذلك ليس هو المعتبر، فقد تكون الحال حسنة ثم تتغير إلى حال سيئة، فيختم له بالسوء، أو قد تكون الحال سيئة ثم يتحول إلى حال حسنة وينتهي أمره على أمر حسن، فالعبرة بالخواتيم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات: (وإنما الأعمال بالخواتيم).
وقد بين عليه الصلاة والسلام في آخر هذا الحديث أن من كان من أهل السعادة قد يعمل بعمل أهل النار طيلة حياته أو أكثر حياته، حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع، أي ما يكون بينه وبين الموت إلا شيء يسير، فيهتدي ويتوب إلى الله عز وجل ويعمل بعمل أهل الجنة، ثم يموت على حالة حسنة، ومن تاب تاب الله عليه، والتوبة تجب ما قبلها، فكل الذنوب التي حصلت من الإنسان إذا تاب منها في الحياة قبل أن يغرغر فإن التوبة تجبها.
وعلى العكس من ذلك من يعمل بعمل أهل الجنة ويستمر عليها أكثر حياته، ثم يدركه الخذلان فيرجع عن الحق والهدى، فيرتد أو ينحرف عن الجادة، فيختم له بخاتمة سيئة، ولكن إذا كان الانحراف عن طريق ردة فإنه ليس له إلا النار، وإذا كان الانحراف عن طريق معاصٍ أو بدع غير كفرية فإن أمره إلى الله عز وجل، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن شاء عذبه في النار على بدعته أو معصيته، ولكنه لابد أن يخرج من النار ويدخل الجنة، ولا يبقى في النار أبد الآباد إلا الكفار الذين هم أهلها.
فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أن العبرة بالنهاية، وأن من كان موفقاً حصل له التوفيق من الله عز وجل فيختم له به، ومن كان بخلاف ذلك حصل له الخذلان وختم له به.