للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[شرح حديث (ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله)]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في صوم الدهر تطوعاً.

حدثنا سليمان بن حرب ومسدد قالا: حدثنا حماد بن زيد عن غيلان بن جرير عن عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله! كيف تصوم؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله، فلما رأى ذلك عمر قال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً، نعوذ بالله من غضب الله ومن غضب رسوله، فلم يزل عمر يرددها حتى سكن غضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله! كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال: لا صام ولا أفطر -قال مسدد: لم يصم ولم يفطر أو ما صام ولا أفطر.

شك غيلان - قال: يا رسول الله! كيف بمن يصوم يومين ويفطر يوماً؟ قال: أويطيق ذلك أحد؟ قال: يا رسول الله! فكيف بمن يصوم يوماً ويفطر يوماً؟ قال: ذلك صوم داود، قال: يا رسول الله فكيف بمن يصوم يوماً ويفطر يومين؟ قال: وددت أني طوقت ذلك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله، وصيام عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصوم يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)].

يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في صوم الدهر تطوعاً].

يعني: هل هو سائغ أو غير سائغ؟ صيام الدهر جاء ما يدل على منعه وذلك في بعض الأحاديث، ومنها: ما أورده أبو داود هنا، وذلك أن صوم الدهر فيه مشقة على الإنسان، وكونه يقصر في الأمور الأخرى الواجبة عليه، يعني: فيما يتعلق بالصلاة والنوافل، وما يتعلق بحقوق الأهل، وما يتعلق بحقوق من له حقوق عليه، فإن استمرار الصيام يلحق الضرر بجسمه، ويعيقه عن الإتيان بالأمور التي عليه أن يأتي بها، هذا هو التعليل للمنع منه، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه أحاديث تدل على أن الإنسان إذا عمل بها فإنه يحصل له ثواب صوم الدهر، وتفضيل ذلك أن صيام ثلاثة أيام من كل شهر -والحسنة بعشر أمثالها- وصيام رمضان وإتباعه بست من شوال يكون كصيام الدهر، فإنه يحصل الأجر للسنة كلها بهذا العمل، وأما كونه يصوم الدهر كله فإن هذا يترتب عليه المحاذير التي أشرت إليها آنفاً.

أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: كيف تصوم يا رسول الله؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: من هذا السؤال، وكان ينبغي له أن يقول: كيف أصوم؟ يعني: هو نفسه يسأل عن صيامه، وماذا ينبغي له أن يفعله في الصيام؟ وأما أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تصوم؟ فهذا هو الذي غضب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغضبه عليه الصلاة والسلام إما لأن هذا الشخص قد يتقال عمله صلى الله عليه وسلم، ويحصل منه عمل كثير يلحقه به مضرة ومشقة، مثل قصة الثلاثة الذين جاءوا وسألوا عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أعماله، فكأنهم تقالوها، فقالوا لبعضهم: الرسول صلى الله عليه وسلم غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأما نحن فنحتاج إلى عمل، فقال بعضهم: (أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أقوم الليل فلا أنام، وقال الثالث: وأنا لا أتزوج النساء، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما علم بخبرهم قال: أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له، أما إني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) وسنته صلى الله عليه وسلم هي صيام وإفطار، وصلاة ونوم، وتزوج للنساء، فمثل هذا السؤال يمكن أن يبنى عليه أن يتقال العمل، أو يحاول أن يلزم نفسه بما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم فيعجز عن ذلك، مثلما جاء في قضية الوصال، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يواصل لما نهى الصحابة عن الوصال، قالوا: إنك تواصل، قال: (إني لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى) كما مر بنا الحديث قريباً.

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يوقفهم على مشقة ذلك الشيء الذي أرادوه فواصل بهم في آخر الشهر يومين أو ثلاثة، وقال: (لو تأخر الشهر لزدتكم) كالمنكل لهم، فهذا السؤال إما أن يترتب عليه كون الإنسان يلزم نفسه بشيء يشق عليه مثل الوصال ولا يستطيعه، أو أنه يتقال العمل فيلزم نفسه بشيء قد يطيقه في الحال ولكنه يشق عليه مع الاستمرار ومع طول الزمن، ومع مضي الأيام يلحقه بذلك مضرة ومشقة، فالرسول صلى الله عليه وسلم غضب لذلك، وعندما غضب قال عمر رضي الله عنه: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وجعل يرددها حتى سكن غضبه صلى الله عليه وسلم، وغضبه صلى الله عليه وسلم إنما هو للشفقة على أمته، والرفق بها، والحرص على ألا يحصل لها شيء يلحقها فيه مضرة ومشقة، وهذا من كمال نصحه صلى الله عليه وسلم لأمته، وأنه رءوف رحيم بها، كما وصفه الله عز وجل بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:١٢٨] وهذا الذي قاله عمر رضي عنه جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث العباس بن عبد المطلب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ذاق طعم الإيمان من رضي الله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً) وجاء في الدعاء عند الأذان: (رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً) وجاء في أدعية الصباح والمساء: (رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً) وهذه الأمور الثلاثة التي جاءت في هذه الأحاديث هي الأمور التي يسأل عنها في القبر؛ لأن العبد يسأل في قبره عن ربه، ودينه، ونبيه، وهذه الأمور الثلاثة هي التي بنى عليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه كتابه الأصول الثلاثة وأدلتها، وهي: الأول: معرفة العبد ربه.

الثاني: معرفة العبد دينه.

الثالث: معرفة العبد لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

فهذا الكتاب المختصر المفيد العظيم لا يستغني عنه الخاص والعام، ولا العامي ولا طالب العلم؛ لأنه مبني على هذه الأمور الثلاثة التي هي مدار السؤال في القبر: سؤال الإنسان عن ربه، ودينه، ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يستغني طالب العلم عن هذا الكتاب الصغير الحجم العظيم الفائدة القليل المبنى، الواسع المعنى، وهو كتاب مشتمل على الأمور الثلاثة التي جاءت في الحديث، والتي جاءت في كلام عمر رضي الله عنه وأرضاه هنا، والتي بقي يرددها حتى سكن غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>