للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[شرح حديث طلاق ابن عمر زوجته في حيضها]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في طلاق السنة.

حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد ذلك وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله سبحانه أن تطلق لها النساء)].

أورد أبو داود رحمه الله [باب في طلاق السنة] أي: الطلاق الذي يكون موافقاً للسنة وليس طلاق بدعة، فالمقصود بالسنة هنا مقابل البدعة؛ لأن السنة تأتي لمعانٍ، منها أنها تأتي بمعنى الشرع كله، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من رغب عن سنتي فليس مني) فالمراد من سنته هنا ما جاء به من الكتاب والسنة، أي أن من رغب عن الكتاب والسنة، أو عما جاء في الكتاب والسنة، أو عن شيء مما جاء في الكتاب والسنة فإنه مذموم، وهذا أوسع معنى للسنة.

ويليه إطلاق السنة على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة، ومن ذلك قول العلماء من محدثين وفقهاء عندما يأتون إلى مسألة من المسائل يقررونها فيحصرون الأدلة إجمالاً أولاً فيقولون: هذه المسألة دل عليها الكتاب والسنة والإجماع والقياس، أما الكتاب فكذا، وأما السنة فكذا، وأما الإجماع فكذا، وأما القياس فكذا.

فعطف السنة على الكتاب هنا يراد به خصوص الحديث.

المعنى الثالث: أن السنة مقابل البدعة، وهذا الذي معنا هو من هذا القبيل، فقوله: [باب في طلاق السنة] أي: الذي ليس على بدعة، والذي هو موافق لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومجانب ومخالف للبدعة.

وهناك إطلاق رابع للسنة في اصطلاح الفقهاء، وهو أن السنة تعني المستحب والمندوب، وهو المأمور به لا على سبيل الإيجاب، وإنما على سبيل الاستحباب، فهذا يقال له سنة.

فإذا قال الفقهاء: يسن كذا فإنهم يقصدون أنه من الأمور المستحبة.

وأما معنى ما جاء في هذه الترجمة فهو السنة التي هي في مقابل البدعة.

وطلاق السنة أن يطلق الرجل امرأته في طهر لم يجامعها فيه طلقة واحدة، فقولنا: في طهر يخرج به الحيض، فلا يطلق في الحيض؛ لأن الطلاق في الحيض طلاق بدعة، وقولنا: لم يجامعها فيه يخرج به الطهر الذي جامعها فيه، فإنه لا يطلق في الطهر الذي جامعها فيه وإنما يطلق في طهر لم يجامعها فيه؛ لأنه إذا جامعها فيه فيمكن أن يكون هناك ولد يترتب على ذلك، ولكن كونه يطلقها حاملاً أو حائلاً هذا هو طلاق السنة.

وقولنا: طلقة واحدة خرج به أن يطلقها ثلاثاً أو أكثر، وإنما يطلق طلقة واحدة إذا أراد أن يطلق، فيقول: طلقت زوجتي طلقة واحدة.

وأورد أبو داود رحمه الله حديث عبد الله بن عمر في قصة طلاقه لزوجته، وأنه طلقها وهي حائض، وأن أباه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: [(مره فليراجعها)] يعني: أخبره بأن يراجعها، والمراد بالمراجعة أنه يعيدها إليه بالمراجعة، فتكون الطلقة التي حصلت في حال الحيض معتبرة، وتكون معدودة ومحسوبة عليه من طلقاته الثلاث، فيكون قد أمضى واحدة، ثم يتركها حتى تطهر من ذلك الحيض ثم تحيض مرة ثانية ثم تطهر فيطلقها في ذلك الطهر الذي جاء بعد الحيضة الثانية التي حصل فيها الطلاق البدعي.

لكن ابن القيم رحمه الله في (تهذيب السنن) أطال الكلام في أنه لا تحسب التطليقة التي في الحيض، وأن الذي يحسب هو ما كان في حال الطهر، وقوى ذلك وأطال فيه الكلام في تهذيب سنن أبي داود.

والقول بكون الطلاق لا يقع في الحيض قال به قليلون، وبه يفتي الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى، وقد ذهبوا إلى أن قوله: [(مره فليراجعها)] ليس المراد فيه بالمراجعة الرجعة المعروفة التي هي إعادة المطلقة، وإنما المراد به كونها تبقى عنده ولا يتركها.

والقول المشهور عن العلماء هو أن الطلاق يقع، وأن عليه أن يراجع، على خلاف في كون المراجعة واجبة أو مستحبة.

وقوله: [(ثم إن شاء أمسك)] يعني: إن شاء أبقاها في عصمته وبقيت زوجة له، وإن شاء طلق في ذلك الطهر الذي لم يجامعها فيه بعد الحيضة الثانية، وقد جاء في بعض الأحاديث التي سيذكرها المصنف أنه يراجعها بعد الحيضة التي حصل فيها الطلاق، ثم بعد ذلك يطلقها إذا بدا له، أي: بعد انقضاء الحيض في طهر لم يجامعها فيه، أما إذا جامعها في الطهر -أي طهر- فإنه لا يطلقها.

والحكمة من منع الطلاق في طهر مسها فيه أنها قد تحمل منه في ذلك الطهر، وأما منعه في حال الحيض فلم يظهر لي وجه الحكمة فيه.

وقوله: [(وإن شاء طلق قبل أن يمس)].

معناه أنه يطلقها في الطهر بدون مسيس، أما إذا وجد المسيس فإنه لا يطلقها، بل يبقيها حتى يأتي طهر لم يجامعها فيه، فيكون الطلاق إما في حال الحمل المتحقق أو في حال كونه متحققاً من عدم حملها بأن كانت تحيض ثم طلقها في طهر لم يجامعها فيه متحققاً عدم حملها.

فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر عمر رضي الله عنه بأن يأمر عبد الله بن عمر، ومعنى ذلك أنه يبلغه؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: [(مره فليراجعها)] المقصود به إبلاغه بأن يراجعها وبيان أن هذا هو الحكم الشرعي، وهو أن المطلق في حال الحيض عليه أن يراجع.

واختلف في هذا الأمر هل هو للاستحباب أو للإيجاب؟ فمن العلماء من قال بوجوبه، ومنهم من قال باستحبابه، بمعنى أنه لو ترك حتى مضى بعد ذلك وقت وخرجت من العدة فليس هناك مجال للمراجعة؛ إذ المراجعة إنما تكون في حال العدة، فإذا جاء الطهر الذي يلي الحيض فإنه يمسكها فيه، ثم تأتي الحيضة الثانية، ثم يأتي الطهر الذي بعدها، ثم بعد ذلك إن شاء أمسكها وأبقاها زوجة له وتكون قد مضى من تطليقاتها طلقة واحدة، وإن شاء طلقها في طهر لم يجامعها فيه فتكون طلقة ثانية.

ومن العلماء من قال: إن التطليق إنما يكون في الطهر الأول بعد الحيضة التي حصل فيها الطلاق؛ لأنه جاء في روايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها أبو داود أنه يطلقها بعد طهرها من تلك الحيضة التي حصل التطليق فيها.

وبعض الروايات -كما في الرواية التي معنا- فيها أنه لا يطلقها في الطهر الذي يلي الحيضة التي حصل فيها الطلاق، وإنما يكون في الطهر الذي يكون بعد الحيضة الثانية، قالوا: وهذه زيادة من ثقة، فتكون مقبولة ويعول عليها، بمعنى أن الطلاق إنما يكون بعد الطهر من الحيضة الثانية.

قالوا: وإنما شرع أن يكون الطلاق بعد حيضة ثانية لأن ذلك قد يكون فيه وقت متسع للإنسان لأن يراجع ويفكر في أمره، فقد يرى أن المصلحة له في أن تبقى الزوجية على ما كانت عليه، فيجامعها ويكون هناك رغبة في الاستمرار ورغبة في الوئام، فيكون في ذلك مصلحة، بخلاف ما إذا شرع له بأن يطلقها بعد الحيضة الأولى فإنه لا يكون هناك متسع للمراجعة ولتدارك ما قد يندم عليه.

قوله: [(فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء)] يعني: مستقبلات العدة.

بمعنى أن العدة تبدأ من الطلاق، والطلاق يكون في طهر لم يجامعها فيه، فلا يكون في الحيض ولا يكون في طهر جامعها فيه، وإنما في طهر لم يجامعها فيه، وفي حال التطليق في الحيض فإنه يراجعها، ثم يكون بعده طهر، ثم يأتي بعده حيض، ثم التطليق يكون في الطهر بعد ذلك الحيض الثاني، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء، أي أنهن يطلقن مستقبلات لعدتهن، ويكون ذلك بتطليقهن في طهر لم يجامعن فيه، وأن يكون ذلك طلقة واحدة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>