[الإيمان بالكتب المنزلة غير المحرفة، وحفظ الله عز وجل للقرآن الكريم]
ومعلوم أن الإيمان بالكتب المنزلة السابقة إنما هو ما أنزل وليس بالكتب المبدلة، وإنما المقصود من ذلك أن التوراة فيها تحريف وتبديل، ولكن مراد النبي صلى الله عليه وسلم أصلها الذي نزل من عند الله عز وجل، وإلا فإنه قد حصل فيها تحريف وتبديل، ولم تكن كما أنزلها الله عز وجل، فالتحريف حاصل لها قبل زمن النبي صلى الله عليه وسلم وحاصل لها بعد ذلك، ولا يزال التغيير والتبديل في الكتب المنزلة على مر الدهور والعصور إلا القرآن فإنه محفوظ بحفظ الله، فلا يدخله تغيير ولا تبديل، ولهذا حفظه الله تعالى أولاً بتمكين النبي صلى الله عليه وسلم من حفظه واستيعابه من جبريل، وأنه لا يفوته شيء، وكان عليه الصلاة والسلام في أول الأمر عندما يلقي عليه جبريل القرآن يحرك لسانه به حتى لا يفوته منه شيء، فأمره الله عز وجل بألا يحرك لسانه به، وأخبره أن عليه جمعه وقرآنه، وأن عليه أن يصغي لتلاوة جبريل إياه عند إلقائه عليه، ثم إنه يكون محفوظاً له بحيث لا يفوته منه شيء، فكان بعد ذلك يصغي ولا يحرك لسانه، وإذا انتهى وإذا هو محفوظ لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم وحفظوه واعتنوا به حتى جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله أنه قال: كنا إذا تعلمنا عشر آيات من القرآن لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن.
ثم أيضاً القرآن نزل منجماً ومفرقاً في ثلاث وعشرين سنة، ولم ينزل دفعة واحدة كالكتب السابقة؛ وذلك فيه تسهيل لحفظه؛ لأنهم كلما نزل عليهم آيات اشتغلوا بحفظها، فإذا جاءت الآيات التي بعدها وإذا هم قد حفظوا ما مضى، وبالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم مع حفظه إياه كان جبريل يدارسه القرآن في كل رمضان مرة، يعني: جبريل يقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم والرسول يسمع، والعكس الرسول يقرأ وجبريل يسمع، فيعارضه القرآن، وفي العام الذي قبض فيه عارضه إياه مرتين، والمعارضة كانت لكل ما نزل قبل ما مضى، وكل هذا من حفظ الله عز وجل للكتاب.
ثم أيضاً ما وفق الله عز وجل له الصحابة من كونهم حفظوه في الصدور، ثم قاموا بحفظه في السطور، حيث جمعه أبو بكر الجمعة الأولى في صحف، ثم جمعه عثمان رضي الله عنه في مصحف، ومصحف عثمان رضي الله عنه هو الذي بين أيدي الناس، والذي يتوارثه الناس عصراً بعد عصر، هذا هو الذي جمعه عثمان رضي الله عنه وأرضاه.
ثم ما وفق الله عز وجل من حصول الحفظ للملايين من المسلمين للقرآن عن ظهر قلب، ولو حصل خطأ في حرف من الحروف لتنبه لذلك الملايين من الناس الذين يبينون الخطأ، وأذكر من الأمثلة التي تذكر بهذه المناسبة أن الجامعة الإسلامية كانت فيما مضى ولا تزال ترسل طلاباً في أوائل شهر رمضان أو قرب شهر رمضان إلى البلاد المختلفة في أوروبا وغيرها ليقوموا بصلاة التراويح ببعض الجماعات الإسلامية هناك، فكان منهم طالب منذ زمن بعيد ذهب وهو من حفاظ القرآن، وكان ليست معه الورقة الصفراء التي هي الورقة الصحية، فجعلوه في مكان يسمونه: محجراً صحياً، فجلس فيه ثلاثة أيام ولما جاء إلى ذلك المكان وجد مصحفاً فيه تحريف وتبديل وتقديم وتأخير وكان حافظاً لكتاب الله، فقرأ ذلك المصحف وصححه بخط يده من أوله إلى آخره، ثم تركه في مكانه، فهذا الحافظ لكتاب الله لما وجد التحريف والتبديل والتغيير في ذلك المصحف صححه بخطه وجعله على الصواب، فهذا من حفظ الله عز وجل لكتابه، كون الملايين من المسلمين يحفظون القرآن عن ظهر قلب، ولو حصل أي خطأ لتنبه له الحفاظ، فلا سبيل إلى تحريفه وتغييره، ولا سبيل إلى تبديله، بل هو محفوظ بحفظ الله؛ لأن الله تعالى تكفل بحفظه حيث قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:٩].
قوله: [(فنزع الوسادة من تحته فوضع التوراة عليها ثم قال: آمنت بك وبمن أنزلك ثم قال: ائتوني بأعلمكم)].
معلوم أن الذي يؤمن به ويقال: إنه من عند الله هو المنزل وليس المبدل، ولهذا جاءت السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم) فنحن نؤمن بالمنزل، ولا نؤمن بالذي عندهم والذي بين أيديهم والذي قالوا: إنه من عند الله، مع أنهم غيروا وبدلوا، ولكننا لا نصدق بكل ما يقولون، ولا نكذب بكل ما يقولون، فإذا كان الشيء الذي يقولونه لا يليق بالله عز وجل ولا بالرسل فإن هذا يكذب ولا يكون هذا من عند الله، كونه لا يليق برسل الله ولا يليق بنسبته إلى الله عز وجل، وكونه من الأمور القبيحة، فمثل هذا يكذب، ولكن إذا كان الشيء له معنى صحيح وحكم وكلام جميل، ولا يدرى هل هو من كلام الله المنزل أو ليس من كلام الله المنزل؟ فهذا هو الذي لا يصدق ولا يكذب؛ لأنه ليس كل كلام جميل يكون من عند الله حتى يقال: إن هذا صدق، بل ما كان من عند الله هو الذي نزله على رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام، ولهذا قال الرسول: (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم)؛ لأنهم لو كذبوا بكل شيء أمكن أن يكذبوا بالحق الذي فيه، ولو صدقوا بكل شيء أمكن أن يصدقوا بباطل، ولكن إذا سكتوا وأمسكوا وقالوا: ((آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ))، فعند ذلك يكونون قد أخذوا بما فيه السلامة وما هو الحق الذي لا إشكال فيه وهو إيماننا بالمنزل: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت:٤٦].
قوله: [(ثم قال: ائتوني بأعلمكم، فأتي بفتى شاب) ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع].
حديث مالك عن نافع الذي هو الأول، وهو الطريق الرباعي، والذي هو من أعلى الأسانيد عند أبي داود.