للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[شرح حديث (لا تسبوا أصحابي)]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النهي عن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)].

أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب النهي عن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم]، وبعد أن ذكر فضلهم ذكر النهي عن سبهم، وهو دال على فضلهم أيضاً؛ لأن كونه ينهى عن سبهم هذا دال على فضلهم، وقد جاء في حديث أبي سعيد الذي أورده المصنف، وهو في الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) فهذا يدل على فضلهم، وآخر الحديث الذي فيه التعليل: (لو أن أحدكم فعل كذا وكذا) هذا أيضاً دال على فضلهم، وأن القليل منهم لا يساويه الكثير من غيرهم.

قوله: [(لا تسبوا أصحابي)] وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين رأوه وأكرمهم الله برؤيته وبسماع كلامه عليه الصلاة والسلام.

قوله: [(فوالذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) يعني: لو كان إنسان عنده كوم من الذهب مثل جبل أحد وأنفقه في سبيل الله، لم يبلغ فضل الواحد من الصحابة الذي ينفق مداً -وهو ربع الصاع؛ لأن الصاع أربعة أمداد- أو نصيفاً، أي: نصف المد، فهذا يدل على فضلهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، والحديث جاء في بعض طرقه أنه حصل خلاف بين عبد الرحمن بن عوف وبين خالد بن الوليد، وأن خالداً سب عبد الرحمن، فقال عند ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) وهذا يدل على فضل السابقين، وعلى تميزهم على المتأخرين، لكن الكل اشترك في فضل الصحبة، وهم متفاوتون فيها، وليسوا على حد سواء، فالسابقون الأولون أفضل من غيرهم، والذين أسلموا أول من أسلم أفضل من غيرهم، والذين وردت فيهم نصوص تدل على فضلهم أفضل من غيرهم، وهكذا فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا أصحابي) وإذا كان هذا الكلام قيل لـ خالد بن الوليد لما سب رجلاً من السابقين الأولين، فإن غير الصحابة ممن جاء بعدهم ممن لم يظفر بشرف الصحبة هو من باب أولى، فإذا كان الفرق والبون شاسعاً بين الصحابة المتأخرين وبين السابقين فإن الذين يجيئون بعد الصحابة ولم يظفروا بفضل الصحبة، ولم يظفروا بشرف النظر إليه صلى الله عليه وسلم وسماع حديثه من فمه الشريف صلى الله عليه وسلم من باب أولى أن يكون عمل الكثير منهم لا يساوي القليل من عمل أصحاب رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه ورضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

وسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر، وقد ذكر الذهبي رحمه الله في آخر كتابه الكبائر: كبيرة سب الصحابة، وختم بها ذلك الكتاب المكون من سبعين كبيرة، ولا شك أن سبهم فيه مخالفة لنهي الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك، وفيه نيل من خير هذه الأمة، وتعرض لخير هذه الأمة التي هي خير الأمم، وأفضل هذه الأمة هم أصحاب رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه ورضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ولهذا جاءت النقول الكثيرة عن أهل العلم في التحذير من سبهم ومن ذكرهم بسوء، وقد قال أبو المظفر السمعاني -كما نقله عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري-: إن القدح في أحد من الصحابة علامة على خذلان فاعله، وهو بدعة وضلالة.

ولما ذكر الحافظ ابن حجر في شرح حديث المصراة في صحيح البخاري أن أحد الحنفية قال: إن أبا هريرة ليس مثل عبد الله بن مسعود في الفقه، وهو الذي روى حديث المصراة، وهذا قدح في فقهه رضي الله عنه، فقال عند ذلك الحافظ ابن حجر: وقائل هذا الكلام إنما آذى نفسه، ومجرد تصور فساده يغني عن تكلف الرد عليه، ثم نقل كلام أبي المظفر السمعاني المتقدم.

ومن أشد وأوضح ما جاء في ذلك ما نقله الخطيب البغدادي في كتابه الكفاية بإسناده إلى أبي زرعة الرازي قال: إذا رأيتم من ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلموا أنه زنديق، وذلك أن الكتاب حق والرسول صلى الله عليه وسلم حق، وإنما أدى إلينا الكتاب والسنة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء -أي الذين يقدحون فيهم- يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة.

لأن القدح في الناقل قدح في المنقول، والمنقول هو الكتاب والسنة، والناقلون هم أصحاب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله تعالى عن الصحابة.

قال سعيد بن زيد رضي الله عنه: (لمشهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر به وجهه خير من عمل أحدكم عمره ولو عمر عمر نوح).

ونوح عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً كما جاء ذلك في آية العنكبوت، وهي مدة طويلة، وعمر طويل، وكل هذا يبين فضل الصحابة وخطورة سبهم والنيل منهم.

ثم إن سب آحاد المسلمين والنيل من آحادهم يعتبر من الغيبة المحرمة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم النيل منهم يكون أعظم وأشد؛ لأنه نيل من حملة الرسالة الذين هم الواسطة بين الناس وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عرف الناس حقاً ولا هدى إلا عن طريق الصحابة، ولهذا فإن من فضائل أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام ومن مناقبهم كثرة ثوابهم وأجرهم؛ لأن أحدهم إذا روى سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقاها الناس من بعده وعملوا بها إلى يوم القيامة، فإن الله تعالى يثيب ذلك الصحابي مثل ثواب كل الذين عملوا بهذه السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً) فمن فضلهم رضي الله عنهم وأرضاهم أنهم الذين تلقوا الكتاب والسنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكل من جاء بعدهم إنما أخذه عن طريقهم، فكل من تلقى سنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وحفظها وأداها فإنه يؤجر عليها مثل كل من عمل بهذه السنة التي جاءت من طريقه، والدليل هذا الحديث الشريف الذي رواه مسلم في صحيحه: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه) وقد ذكره أبو داود وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>