للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[شرح حديث: (قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان)]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا بشر -يعني: ابن المفضل - حدثنا أبو مسلمة سعيد بن يزيد عن أبي نضرة عن مطرف قال: قال أبي: (انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا، فقال: السيد الله تبارك وتعالى، قلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً، فقال: قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان)].

أورد أبو داود حديث عبد الله بن الشخير رضي الله تعالى عنه قال: (انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا) أي: كانوا يخاطبوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (أنت سيدنا، فقال: السيد الله) أي: السؤدد على الحقيقة إنما هو لله عز وجل؛ لأنه المتصف بذلك على الإطلاق، فهو الذي الخلق خلقه، والملك ملكه، وهو المتفضل بكل النعم، وهو الذي يتصرف في الخلق كيف يشاء، وهو صاحب السؤدد على الحقيقة، وغيره ممن حصل سؤدداً إنما هو سؤدد ناقص وغير كامل؛ ولهذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن نفسه بأنه سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، وهو سيدهم في الدنيا والآخرة صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ولكن السؤدد الذي يليق بالإنسان للرسول صلى الله عليه وسلم منه الحظ الأكبر والنصيب الأوفر، وأما السؤدد الكامل على الحقيقة فهو لله عز وجل؛ ولهذا قال: (السيد الله) أي: الله هو المتصف بهذا على الحقيقة، وهذا لا يعني ألا يقال لغيره عز وجل: سيد؛ لأن النبي نفسه قال: (أنا سيد ولد آدم)، فأخبر عن نفسه بأنه سيد، وقال عن سعد بن معاذ سيد الأوس: (قوموا إلى سيدكم)، وجاءت نصوص تدل على إطلاق ذلك على المخلوق، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لحمايته جناب التوحيد، ولحرصه على ألا يحصل غلو يؤدي إلى محذور أرشد عليه الصلاة والسلام وبين أن السيد هو الله، وأن السؤدد الحقيقي إنما هو لله سبحانه وتعالى.

قوله: [(قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً)].

يعنون: الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو أعظمهم فضلاً وطولاً، والمعنى: أنه أعظمهم عطاءً وجوداً وكرماً وإحساناً، كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} [النساء:٢٥] أي: غنى، وقولهم: (وأعظمنا طولاً) أي: عطاءً وإحساناً وجوداً وكرماً عليه الصلاة والسلام، وهذه صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ويدارسه القرآن، كما جاء في الحديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن أجود بالخير من الريح المرسلة) صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

قوله: [(فقال: قولوا بقولكم أو بعض قولكم)].

يعني: القول المناسب الذي ليس فيه محذور، وهذا ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)، ولهذا فإن من أحسن ما يوصف به النبي صلى الله عليه وسلم أن يقال: عبد الله ورسوله، فهو عبد لا يُعبد، ورسول لا يكذب، بل يطاع ويتبع، وقد أرشد إلى هذا صلوات الله وسلامه وبركاته عليه لما نهى عن إطرائه فقال: (إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنه سيد الخلق، وهو سيد ولد آدم، والسؤدد الذي يليق بالمخلوق له الحظ الأوفر والنصيب الأكبر منه، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، لكن المقصود من ذلك هو تحذيره صلى الله عليه وسلم من أي شيء يفضي إلى الإطراء، ويفضي إلى الغلو فيه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه؛ ولهذا نجد أن الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم في روايتهم للأحاديث الكثيرة لا يأتي على ألسنتهم: قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، ومن المعلوم أن المحدثين يحافظون على لفظ الحديث حين يأتون به، ولا ينقصون منه شيئاً، بل إنهم يميزون بين عبارة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) وعبارة: (قال النبي صلى الله عليه وسلم)، فهنا عبر بالنبي وهناك عبر بالرسول، ومعناهما واحد، ولكن هذا كله محافظة منهم على الألفاظ، وعناية في الإتيان باللفظ الذي أتى به الراوي، فلو كانوا يأتون بكلمة سيدنا لما حذفت، ولأتي بها في هذه الكتب الكثيرة التي هي بالآلاف؛ ولهذا نجد في هذا الزمان من كون بعض الناس لا يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ويقول: سيدنا، ولا يذكر أحداً من الصحابة إلا ويقول: سيدنا، وهذا ليس من طريقة ولا من منهج السلف، فإننا نجد أن كتب الحديث ليس فيها ذلك، وهم أحرص الناس على الخير، وأعظم الناس تعظيماً للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يأتون بالرواية على هذه الصيغة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا) أو (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا) أو (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا) أو (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كذا) أو (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا) أو (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا) وهكذا، فالذي لا يلتزم قول: (سيدنا) عند ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقال: إن هذا حصل منه هضم لجنابه، أو نقص في حقه؛ لأن سلف هذه الأمة هذه طريقتهم، وهذا هو منهجهم، وهذه الأحاديث الموجودة -وهي ألوف المؤلفة- وليس فيها: (قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا) كما يفعله بعض الناس في هذا الزمان، فهذا غير مطلوب، وإنما يجب تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وتوقيره ومحبته، واعتقاد أنه سيد الخلق وأفضلهم، ولكن على الإنسان أن يكون متبعاً في ذلك، ويكون على منهج السلف، وعلى طريقة السلف من الصحابة ومن سار على منوالهم، ولا يقال: إن الذي لا يلتزم بكلمة (سيدنا) لا يعرف قدر الرسول صلى الله عليه وسلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>